تمهيد
بالرغم من النقد الكثير الذي وجهته التيارات ما بعد الحداثية للحداثة في
مجال التعليم، إلا أنها لم تطرح فلسفة تربوية شاملة إلى الآن . فأثر ما بعد
الحداثة على التعليم كبير وإن كان غير واضح المعالم
.
انتقدت ما بعد الحداثة مبالغة الحداثة في تقدير العقل وتمجيده، كما انتقدت
التركيز على العلم والمواد العلمية والمنهج العلمي. وأنكرت أن يكون هناك حقيقة
مطلقه قائمة خارج الذهن، وشككت في أن يكون العقل قادرا على الحكم الموضوعي. وإنما
العقل يبني الحقيقة، ولا يكتشفها، كما تقول الحداثة، والعقل نفسه تبنيه الثقافة
السائدة في المجتمع.
هذه النظرة إلى الحقيقة انعكست على النظر إلى المعرفة، فالمعرفة في المنظور
المابعد حداثي تبنى في سياق ثقافي، ومهمة التدريس النقدي
critical pedagogy هي أن تجعل الطلاب يتفحصون القيم والفرضيات والآيديولوجيات والمصالح
المنعكسة في المعرفة، ليقوموا بإنتاج المعرفة بدلا من بقائهم مستقبلين غير ناقدين
. وهذا يتم فيما يسميه التربوي النقدي بول فريري بتربية إثارة الأسئلة، مقابل ما
أسماه تربية الإيداع banking
education ، التي تعتمد على ترحيل المعلومات.
النظرة ما بعد الحداثية أثرت على عناصر العملية التربوية كافة. المعلم،
والمنهج، وطرق التدريس والطالب.
المعلم
ما بعد الحداثة ترى أن مهمة المعلم ليست ـ بل وليس من حقه ـ أن يقوم بنقل
الحقائق كما يراها هو إلى ذهن الطالب، بل يساعده في بناء حقائقه الخاصة التي
يشكلها مجتمعه وثقافته.
الطالب
ما بعد الحداثة تؤكد على أن الطالب يجب أن يتعلم أن لا يعتمد على الموضوعية
التي تزعمها الحداثة . وقد كان لما بعد الحداثة أثر على طبيعة العلاقة بين الطالب
والمعلم، فحيث لم يعد ينظر للمعلم على أنه الخبير الذي يزود الطالب بالمعلومات،
صار هناك تركيز على التفاعل الفردي بين الطالب و"المعلم" والاستكشاف
المشترك .
المنهج
في النظرة ما بعد الحداثية يجب أن يتكيف المنهج مع الطلاب، بحيث يتناسب
المحتوى والمهارات مع الطلاب وحاجاتهم. فهدف المنهج أن يكون تحويليا Transformative،
بحيث يمكن الطالب أن يتفحص ويدرك العالم من حوله أولا ثم يفهم نفسه بشكل أكبر.
ولذا فالأنشطة التعلمية ليست مخططا لها مسبقا، إنما تتقرر بناء على رغبات الطلاب
وعلى الطرائق التي يتم بها الفهم في أذهان الطلاب. فالمنهج في النظرة ما بعد
الحداثية يهتم بالطريقة التي يبني بها الطلاب المعرفة من منظورات مختلفة، بأساليب
تعلمية متنوعة وذكاءات متعددة، لا تعتمد فقط على الذكاء التقليدي الرياضي المنطقي .
ويبتعد المنهج ما بعد الحداثي عن النظرة الحداثية للمنهج التي تنحو المنحى
التراكمي في تقديم المحتوى، إلى المنهج التحويلي، الذي يسعى لإحداث تحويل في فهم
الطالب لما حوله ومن ثم فهمه لنفسه . فيجب أن لا يحتوي المنهج على حقائق يراد
نقلها إلى الطالب، ولا بد أن يحتوي على القليل من
التجريد والتنظير، وبدلا من ذلك يركز على الاهتمامات الفردية للطلاب وعلى
التطبيقات العملية .
ومن المعلوم أن من الأشياء الأساسية التي يقدمها المنهج هي
طبيعة الموجودات أو الحقائق، فعلى النظرة مابعد الحداثية يجب أن يؤصل في أذهان
الطلاب أنه ليس هناك حقائق خارج الذهن، وأن الحقائق تبنى عن طريق اللغة وداخل
الثقافة. ولذا فليس هناك حقائق مطلقة، بل هي حقائق نسبية.
والمنهج ما بعد الحداثي لا يرفض الغيبيات أو يقلل من قيمتها كما تفعل
الحداثة، بل يعترف بها وربما يشجعها، لكن ليس على أنها حق، أو حقائق مطلقة، بل على
أنها ثقافة شكلتها منظومة اجتماعية خاصة. ويجب أن لا تتعدى إطار تلك المنظومة.
فموقفهم من الدين يختلف عن موقف الحداثة. ففي حين أن الحداثة تنظر إلى الدين
على أنه أمر غير علمي، حيث أنه قائم على افتراض وجود كائنات غيبية (ميتافيزيقية)
لا تدخل تحت ما يمكن التحقق منه بالحواس
وإدخاله تحت نطاق التجربة. فصار في حس الحداثيين أن الدين خرافة بمعنى أنه مناقض
للعلم. أما مذهب ما بعد الحداثة فيرى صحة جميع الأديان. لا من حيث أنه يعترف
بالوحي أو بوجود الإله، بل من حيث أنها جميعا بنى ثقافية، ولا أحد يملك أن يحكم
عليها بأنها خطأ. فكل أصحاب دين يعتبر دينهم حق بالنسبة لهم. لذلك لا تحارب ما بعد
الحداثة الأديان بل تشجعها، بأي شكل كانت، وتدعوا للتعايش بين الأديان جميعها دون
استثناء، وترى أنها سواسية، إذ أنها ترى أنه ليس لدى أحد معيار مطلق يمكن أن يقاس
به الدين الحق من الباطل.
وبناء على ذلك، فالأخلاق والقيم أيضا نسبية، وما يعتبر خلقا فاضلا في ثقافة
قد يكون ظلما في ثقافة أخرى، والعكس صحيح ايضا، فما بعد الحداثة تسوغ الشذوذ
الجنسي ـ مثلا ـ وترى أنه يجب أن يحترم رأي أصحابه. وترى أن النظر إليه على أنه
خطيئة أوشذوذ، إنما هو من صنع الثقافات الجائرة التي تريد أن تفرض
"حقائقها" على أنها حقائق مطلقة.
ولا يفتأ ما بعد الحداثيين أن يؤكدوا على أن منظومة القيم التي يراد، بناء
على المنهج الحداثي فرضها، إنما هي من إفرازات للعلاقة بين العلم والسلطة، وأن
السلطة هي التي توجه العلم وتجعله مؤدلجا، وتستغله لفرض رأي الأغلبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق