القضية
التى تقوم عليها مابعد الحداثة من منظور
الفلسفي
تقوم ما بعد الحداثة على قضيتين
أساسيتين.
الأولى على المستوى الأنتولوجي (أي ما يتعلق بطبيعة
الوجود)، والثانية ابستمولوجية (أي نظرية
المعرفة).
والقضية الأولى والأساسية التي تقوم عليها " ما بعد
لحداثة" هي أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، أي حقيقة صادقة في ذاتها، بل إن
الحقائق يصنعها المجتمع بجوانبه الثقافية المتعددة لأفراده. فليس هناك
"حقيقة" يجب أن يقر بها الجميع، وليس هناك حق مطلق، بل الحقيقة تصنع عن
طريق اللغة وفي داخل ذهن الإنسان لوحده. وبالتالي فما يقال عن التقدم أو
التطور الذي رافق "الحداثة" أو الذي تدعو إليه ليس إلا خرافة، وما يقال
عن قدرة العقل على "اكتشاف" الحقيقة إنما هو وهم.
فالحقيقة لا تكتشف، لأنه ما ثم
حقيقة أصلا، وإنما الحقيقة "تخلق" ولا
تكتشف، فالإنسان هو الذي يخلق حقائقه. "فأفكارنا ليست انعكاسا للواقع بل
قراءة له، وهي قراءة تتخذ صيغا أسطورية وإيديولوجية ودينية ونظرية، وكل منظومة
معتقدية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة وتميل إلى اعتبار كل ما يناقضها ويخالف حقيقتها
أكذوبة أو خطأ. إن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ، والخطأ الأساسي يقوم في التملك
الوحيد الجانب للحقيقة ".
ولذلك كان من السمات الرئيسة لما بعد الحداثة التأكيد على أن زمن بناء
التصورات العامة حول العالم أو السرديات الكبرى
meta-narratives قد انتهى وأن عصر إنشاء النظريات الكلية وبناء الأنساق الجامعة قد تولى،
خاصة بعد أن ظهر الطابع التسلطي الهيمني لهذه النظريات وتبدت "إراد
القوة" التي تسيرها .
فليس هناك حقيقة مطلقة، بل المعارف بنى اجتماعية يبنيها الإنسان، وهي حقيقة
بالنسبة له. فالإنسان أسير ثقافته، وهي التي تحدد له "حقائقه"، ولذلك
ففرض تلك "الحقائق" على ثقافات أخرى تسلط وظلم، مهما قيل عن وجود دليل
"عقلي" يسندها.
ففي النظرة ما بعد الحداثية ليس هناك ذاتا أو
حقيقة للفرد يبقى ملتزما بها وصادقا لها، بل هوية الفرد دائمة التبدل والتشكل
وتغير توجهها تبعا للتغير الدائم لعلاقاته
.
وتفرع عن هذا أصل آخر وهو التعددية
multiplicity ، فما دام أنه ليس هناك حقيقة مطلقة، بل
الكل حقائق نسبية، فلا بد من قبول التفسيرات المتغايرة، والمتناقضة أحيانا،
للحقيقة. فالتعددية وتنوع التفسير والتصور أمر مقبول بل مرغب فيه في التوجه ما بعد
الحداثي.
القضية الأساسية الثانية التي تقوم عليها مابعد الحداثة قضية
إبستمولوجية (أي تتعلق بطبيعة المعرفة، أو العلاقة بين الشيء المعروف وبين العارف
أو الباحث)، وهي أنه ليس من الممكن الفصل بين الملاحِظ والشيء الملاحَظ، أو بين
الباحث والمبحوث. فالحقيقة إنما هي تصورنا أو إدراكنا للحقيقة في سياق ذاتي
واجتماعي محدد.
يتساءل ما بعد الحداثيين: كيف نعرف أن الصورة التي في أذهاننا مطابقة للواقع
الخارجي؟ لا يمكن هذا، على ما يرون، إلا بأن يقف الإنسان خارج نفسه ويقارن بين ما
في ذهنه وما في الواقع الخارجي. وحيث أن هذا غير ممكن فليس لدينا طريقة لتأكد من
أن هذه المطابقة دقيقة. فليس لدينا إلا الشك.
فالنظرية ما بعد الحداثية ترفض المعادلة الحداثية القائلة بالعقل والحرية،
وتسعى إلى بيان الإشكالية في الصيغ الحداثية للعقلانية بوصفها عامل اختزال وإلغاء
وقهر . وحيث تميل الحداثة إلى النظر للمعرفة والحقيقة على أنهما محايدتان
وموضوعياتان وتأخذان صبغة العالمية والعموم وهما وسيلة للتقدم والتحرر يحللهما
فلاسفة ما بعد الحداثة على أنهما عناصر متداخلة للسلطة والهيمنة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق