تطور العلم
من منظور فلسفي
قد أثبتت البحوث العلمية ـ التي كانت سلاح الحداثة الأكبر ـ بكشوفاتها
الهائلة يوما بعد يوم ضآلة ما يعرفه العقل البشري بالنسبة لما لا يعرفه. وأكدت تلك
الاكتشافات بشكل غير مباشر محدودية عقل الإنسان، وأنه ليس كما كان يتصور الحداثيون
أنه هو "الإله"، بل أكدت على أنه مخلوق صغير رغم كل قدراته الهائلة. بل
إنه يعتريه الضعف والنقص كغيره من المخلوقات، إلى درجة قد لا يوثق فيها بحكمه في
بعض الأحيان. فاختلت النظرة إلى قدرة العقل الذي هو مصدر المعرفة المطلق لدى
التيار الحداثي، أو كما قال بعض الباحثين، قامت الحداثة على العقل لكنها هي التي
دمرت العقل . فالاكتشافات العلمية، خصوصا بعد اكتشاف مبدأ اللا يقين والفيزيا
الكمية، بينت بطلان الأوهام التي حيكت عن قدرة العقل والعلم وفندت حتميات القرنين التاسع عشر والعشرين .
"نجم عن تدمير الصورة النيوتونية [الميكانيكية] للعالم شيء من التواضع
[العقلي] وانتعشت الميتافيزيقيا وازداد الاهتمام باللامعقول ولم يعد العلم بسيطا …
وقد كشف النقاب عن كون غامض مقدر لجزء منه أن يبقى غامضا، كما وقذفنا بأحجيات لا
يستطيع العلم حل ألغازها داخل أعمق أعماق الحقيقة. وهكذا أصبح العلماء أكثر تواضعا.
وأخذوا يتحدثون عن الكون الغامض بدلا من حديثهم عن التقدم نحو المعرفة الكاملة" .
ولذا ترى ما بعد الحداثة أن العلم محدود وأنه تسبب في شقاء البشرية وأن
"العلمية" وظفت آيديولوجيا لسيطرة الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى.
وهذا قد يكون صحيحا لكن لا يعني هذا أن يبخس العلم حقه فالعلم شيء وسوء تطبيقة أو
أدلجته شيء آخر.
هذا بالإضافة إلى ما لطخ به العلم من أوضار السياسة وتوجيهات السلطة، فينفي
هابرماس وجود حياد أو صفاء علمي، فالعلم في سياق العقلانية التقنية الحداثية
تحايثه حسابات السياسة أي إرادة السلطة،
بالمفهوم النيتشوي، وهو ما يتطلب نقد الوضعية والتيارات المعجبة بالعلم
والنزعة التقنية، فهذه كلها تعبيرات متنوعة للآيديولوجيا المكونة للحداثة التقنية .
ومن هذا نشأ تيار "ما بعد الحداثة". فالعلم ـ كما
يقول بعض أنصار "ما بعد الحداثة" ـ الذي هو عماد الحداثة، هو الذي هدم
الحداثة و قاد إلى "ما بعد الحداثة". ففقد الثقة بالعلم قاد إلى ردة فعل
تجاه الفلسفة التي كانت قائمة عليه.
فقد الثقة بقضية التقدم
مر الغرب بأزمات في القرن والعشرين وحروب بينت بطلان ما كانت تبشر به
الحداثة من المستقبل الزاهر والتقدم الموعود. فبعد الحرب العالمية الأولى خرج
الغرب محطما ومتهالكا، وفاقدا الثقة بعقيدة التقدم ، يقول وليم إنج "لقد كان
الإيمان بالتقدم هو القوة المحركة للغرب طوال ما يقارب المائة والخمسين عاما، ولقد
انتهى الغرب أخيرا إلى إدراك عبثية ذلك الإيمان وعقمه" . على النقيض من نظرة
الحداثة المتفائلة بمستقبل البشرية، تنظر ما بعد الحداثة بكثير من التشاؤم إلى
المستقبل الذي تسير إليه البشرية في ظل النظرة الحداثية، فترى أنها جرت عليها من
الويلات أكثر مما أفادتها.
يقول جارودي واصفا الوضع الذي آل إليه وهم التقدم الحداثي:
وتهاوت أوهام كثيرة، وهم رخاء الرأسماليه الذى لا حدود له، وهم الديموقراطية
التي كان يتصورها الناس على أنها (جمهوريه الذوات الواعية ) وتصوروا وجودها يسمو
على صالح الأفراد والجماعات، ... وأوهام فلسفيه اخرى تقابل تلك الأوهام التاريخية:
وهم المثالية الطيبة التي تصور العالم على انه عالم شفاف ينعم بوجود عقل خالق
ومنظم له . هذه النزعات التلفيقية ذات النغمة الطيبه في عالم وجدت جميع المشاكل
فيه حلا لها من خلال التأليفات الروحيه واجهت فجأة امتحانا قاسيا في قلب الحياة
نفسها وبتأثير الأفكار التي إنبعثت من هذه الحياة وشاهدنا في بحر سنوات معدودات ان
الفلسفات التي كان قد كتبت لها السياده الكامله حتى ذلك الحين – على الأقل في
الجامعات – قد جرفها الطوفان وانقلبت الليبراليه العقليه إلى إتجاه عدمي فاشى
وتحول المذهب التفاؤلي الى وجوديه مأساويه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق