موضوع على تاريخ الأنساق الفلسفية
مقدمة
ان تاريخ الفلسفة ليس ترديداً لأقوال
الفلاسفة، بل هو فلسفة تتأتى من إعادة النظر في الأسس والمبادئ التي بنى عليها
الفلاسفة تجاربهم الفكرية. فتاريخ الفلسفة معين خصب وثّر، يكتنف كثير من المشكلات
الفلسفية التي أصبحت الآن محوراً للجدل والنقاش، وهي قضايا – ربما- لم تكن مثاراً
للاهتمام قديماً، بل إن فعل القراءة الفلسفية أججها وكشف عنها. يعد
هذا البحث محاولة علمية جادة في فهم سيرة العقل الفلسفي، وذلك من خلال
دراسة "مفهوم النسق الفلسفي" وتحليله. وبتعبير أدق هو محاولة في
"أنطولوجيا الفهم" يهدف إلى معرفة ماهية عمل العقل في بناء النص الفلسفي
ومع إقرارنا بالاختلاف والتباين بين الأنساق الفلسفية من حيثُ فروضها
ومناهجها، هل تتفق الأنساق الفلسفية المختلفة بخصائص عامة مشتركة؟
الجوهر :
فكلمة نسق أو بالأحرى كلمة مذهب لها معنى خاص في
الفلسفة ، ويمكننا تحديد معنى النسق في الفلسفة على أنه مجموعة نظريات مترابطة
متشابكة متكاملة تؤلف كلاً 1 عضوياً يفسر بعض أجزائها البعض الآخر»
وقد تبنت المعاجم والموسوعات الفلسفية الروسية لفظة نسق اليونانية systema، وعرفت الموسوعة الفلسفية الروسية النسق بأنه لفظة يونانية تعني
"الكل المركب من 2
الأجزاء"
. وورد في معجم الألفاظ الأجنبية في اللغة الروسية أنالنسق «هو جملة
العناصر المرتبطة مع بعضها بعضاً تشكل وحدة محددة، أو هو كيان فكري مستقل 3 من
العلاقات الداخلية»
. وقد ذهب لالاند في موسوعته الفلسفية إلى أن مصطلح النسق يقال بمعنيين: عام
وخاص؛ والنسق بالمعنى العام، هو «جملة عناصر مادية أو غير مادية يتعلق بالتبادل
بعضها ببعض، بحيث تشكل كلاً عضوياً مثل: "النظام المدرسي" و"الجهاز
العصبي"، والنسق بمعناه الخاص، هو «مجموعة من أفكار علمية أو فلسفية مترابطة1 منطقياً
من حيث تماسكها لا من حيث حقيقتها
ليس للنسق الفلسفي تعريفاً
"جامعاً مانعاً"، لأنه ليس ثمة ماهية مشتركة بين الأنساق الفلسفية،
القائمة أساساً على الاختلاف. وفي ضوء التعريفات المعجمية التي سقناها نسوق
تعريفاً إجرائياً للنسق الفلسفي نبني عليه بحثنا، وهو أن النسق الفلسفي [بناء
فكري مركب من وحدات معرفية (فروض، قضايا، تصورات، مفاهيم، نظريات) تُشكل
إطاراً تصورياً مترابطاً ومتسقاً منطقياً، في إطار منهج يهدف إلى الإحاطة بالوجود
بأسره].
يعد العالم الإيطالي غاليليو GALILEE (1564-1642) أول من قطع الصلة بالفكر القديم، وتخلى عن مفاهيمه
وأسسه وأساليبه، مدشنا طريقة جديدة في البحث تقوم على نظرة جديدة للطبيعة، نظرة علمية
حق. غير أن الأسلوب الغاليلي في البحث لم يبق أسير العلوم الطبيعية، بل أصبح أسلوبا
متداولا في خريطة بعض العلوم الإنسانية، وخاصة اللسانيات، وقد كان ذلك بفضل العالم
اللساني تشومسكي من خلال نظريته في النحو التوليدي، هذه النظرية التي شغلت اللسانيين
كثيرا "حتى قيل إن أية نظرية لغوية لا يمكن أن تتجاهل نظرية تشومسكي، بل إن مكانة
أي نظرية وإنجازها في حقل الدراسات اللغوية المعاصرة يتحدد بمدى صلتها بنظرية تشومسكي،
قربا وبعدا أو نقدا وتبديلا".
والواقع أن المتتبع لنظرية النحو التوليدي يرى أن
أي مقاربة سليمة لهذا الفكر لا يمكن أن تقوم إلا حينما نلامس تأثر تشومسكي بتقليد علمي،
ابتدأت بوادره مع نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، ومما يدل على هذا التصور التكوين
العلمي الرفيع المستوى الذي يحظى به تشومسكي، والذي يظهر جليا من خلال كتاباته العلمية.
فما هي أهم مياسم الفكر الغاليلي في الاستدلالات
التوليدية؟
يجمع الدارسون على أن نظرية الربط العاملي التي
بدأ تشومسكي برنامجها منذ أواخر السبعينيات، تشكل طفرة إبستمولوجية هامة: "فالتطورات
السابقة لم تحدث تغييرا هاما في وجهات النظر.. وهذا لا ينسحب على نظرية الربط العاملي،
فالتغيرات أكثر راديكالية ويبدو أنها تضع موضع تشكيك مجموعة من الخصائص التي تميز الأنحاء
التشومسكاوية، كاللجوء إلى التحويلات ومفهوم الاشتقاق، وأطروحة استقلال التركيب..".
وأهم خاصية وسمت فترة السبعينيات في سياق البرنامج
التوليدي، اتباع تشومسكي أسلوبا جديدا في البحث يدعى في الأدبيات الإبستمولوجية بالأسلوب
الغاليلي: "يجب ألا نستغرب من أنه لا يمكن تطوير مفهوم دال للغة بوصفها موضوع
بحث عقلاني، إلا على أساس التجريد الضارب في العمق، واتباع أسلوب غاليلي في البحث اللغوي".
والمقصود بهذا الأسلوب الجديد أن النماذج التي يبنيها اللغوي لا ترصد جميع المعطيات
اللغوية، لأن التجربة لا تلعب دورا حاسما في بناء النظريات اللسانية. فالتجربة تابعة
للنظرية، وقيمتها في امتلاك قدرة عالية على التنبؤ والاكتشاف، لأن المعطيات الحاسمة
في تطور النظرية لا تمثل دائما أمام اللساني في عالم الحس العادي، وبدهي أن النظرية
هي التي تخلق التجربة وليس العكس، ويتأتى التجريد عن طريق الأمثلات التي توصله إلى
بناء المبادئ التفسيرية العميقة المقومة للغة البشرية، ويجري بوطا تقابلا دالا بين
تشومسكي وغاليلي إذ: "كثير من التجارب التي يحيل عليها غاليلي عندما يصوغ نظريته
هي تجارب فكرية. الأمر يتعلق بحدث غير معقول بالنسبة إلى التجريبيين الذين يظنون أن
النظريات الجديدة ينبغي أن تكون مأخوذة من الواقع، إلا أنه أمر معقول عندما نعي أنه
لا يمكن الشروع في تجربة دقيقة إلا إذا كانت لدينا نظرية قادرة على تقديم تنبؤات في
صورة بيانات دقيقة للملاحظة". فالنظريات اللسانية تشبه النظريات الفيزيائية من
حيث أنها تتعامل مع واقع معدل ومبني، حيث نفهم أن النجاح الفعلي للعلوم المعاصرة يعود
إلى بحثها عن المبادئ التفسيرية التي تنفذ إلى المقومات العميقة للعالم الطبيعي لتدرس
بعض الظواهر عازفة عن تناول كل الظواهر. ويستوحي آليات هذا الأسلوب من التطورات التي
لحقت العلوم الطبيعية في مطلع هذا القرن، ليحصر ميكانيزماته في:
1) التجريد،
2) الترييض، 3) المرونة الإبستمولوجية.
أ ـ التجريد:
ويعني عند كل من غاليلي وتشومسكي أن العالم لا يغطي
جل المعطيات الطبيعية، وبدل استقصاء المعطيات يلجأ إلى الأمثلات. ودورها عند بوطا مثلا
هو إبعاد البرامترات الهامشية التي تعيق التقدم في فهم الظواهر، ومن معاني التجريد
أيضا الوصول إلى مبادئ تفسيرية، أي جعل الخطاب العلمي بنية تفسيرية تحول كل المعطيات
الملاحظة إلى مبادئ تفسيرية بسيطة توحد القوانين كمبدإ الجاذبية عند غاليلي ومبدأ السلكية
أو التحتية أو الحاجز عند تشومسكي: "لأنه عندما يتعلق الأمر بنظرية تفسيرية يجب
أن نتساءل حول مفترضاتها عن العالم الطبيعي. بحيث تقف كل القوانين التفسيرية عند نقطة
أو مبدأ تفسيري عام، وإذا طلبنا من العالم أن يفسر المبدأ العام الذي تستنبط منه كل
القوانين الوصفية (وأن يستدل على واقعيته) أجاب أن مبدأه هذا قد مس عمق الظواهر الملاحظة".
ويتبع تشومسكي نفس الاستدلال الغاليلي فهو يعتبر أن البرهنة على أن البناءات المفترضة
في النظرية اللسانية لها واقع نفسي مسألة تتعلق بالتفاسير المقترحة لهذه النظرية، وكذلك
يبين عالم اللسان بأن هناك واقعا نفسيا لتلك الفعليات العاملة في الدماغ، عليه أن يعيد
النظر في الشواهد والسلوك اللغوي الذي بنى عليه نظريته، ثم يعيد النظر في التحاليل
المقترحة لتلك المعطيات اللغوية.
ب ـ الترييض:
تتجلى هنا
قدرة كل من العالم الطبيعي واللساني على مفهمة وترييض المبادئ والقوانين التفسيرية
في نموذج تفسيري، فقدرة النظرية التفسيرية تتنامى كلما ازدادت إمكانيات النظرية الترييضية،
ومن ثمة كان هاجس غاليلي إيجاد نسق رياضي قادر على استيعاب قوانين النظام الفلكي، ويؤاسر
تشومسكي غاليلي من هذه الجهة، إذ يجب أن تنصب عناية اللساني على الطرق الرياضية والمنطقية
المقترحة لبناء النماذج اللسانية، يقول تشومسكي: "ستوجد التفسيرات فقط عندما ستصورون المبادئ العامة، يمكن إذا حينذاك
بناء استدلال استنباطي يقودنا إلى الظواهر التي ستفسر".
ج ـ المرونة الإبستمولوجية:
لاحظ بوطا أن النظرية التوليدية لا تأبه بالمعتقدات
التجريبية وبالحس العادي، ولذلك قد تصطدم النظرية بمعطيات تجريبية تهددها أو تناقضها،
ورغم ذلك يحتفظ العالم بنظريته، لأن بيانات الملاحظة لا تأخذ بعين الاعتبار تعقد النظريات
العلمية مادامت هذه الأخيرة بنيات أو برامج بحث متسقة، فالعمل بواسطة النواة الصلبة
للنظرية يكون بعيدا في البداية عن التجربة، إذ: "الاشتغال ببرنامج بحث يتم دون
الانشغال بالإبطالات الظاهرة التي تأتي بها الملاحظة". فالعالم يتسامح في وجود
حجج مضادة، وبقاء بعض الظواهر بدون تفسير، من ذلك قضية الاستعمال الإبداعي للغة، التي
تبقى مستعصية عن الفهم في الحالة الراهنة للنظرية التوليدية. وتبدو درجة التشابه بين
تشومسكي وغاليلي في طرق احتفاظهما بالنظرية المهددة، فالنظرية المهددة عند غاليلي هي
فكرة دوران الأرض حول الشمس، والفكرة المهددة عند تشومسكي هي مبادئ نظرية الربط العاملي،
إذ تتنبأ بلحن بعض الجمل في الإنجليزية، لكنها مقبولة عند متكلميها. والحجة المهددة
في نظرية غاليلي صاغها المنافحون عن النظرية المدرسية الأرسطية: "… الأجسام الثقيلة
التي تسقط من أعلى تهوي في خط عمودي مباشر نحو سطح الأرض. فهذا يعتبر حجة على كون الأرض
لا تتحرك. فلو كانت تدور حول نفسها، فإن الحجر الذي يرمي به من رأس البرج مندفعا بدوامة
الأرض سيسافر مئات الياردات… قبل أن يسقط على الأرض بعيدا عن أساس البرج".
الخاتمة
إذن الاستراتيجية الوحيدة عند غاليلي وتشومسكي للاحتفاظ
بنظريتهما هي إبعاد هذه التهديدات. ويظهر التشابه بينهما في طريقة صياغة تأويل للإحساسات
العادية، بالنسبة لغاليلي: الحركة الظاهرة ليست مطابقة للحركة الحقيقية. وبالنسبة لتشومسكي:
مقبولية أو عدم مقبولية التراكيب إنعكاس ضروري لنحوية البنى إذا كانت هذه البنى غير
موسومة. فمفهوم الوسم عند تشومسكي يماثل مفهوم الحركة الحقيقية عند غاليلي. إذ ليست
كل البنى والصور القولية في اللغات الطبيعية في مستوى متشابه من الطبيعة. ومؤدى هذا
المفهوم أن هناك بعض الظواهر في اللغات الطبيعية لا تتماشى والإطرادات الفرعية أو الكلية
في النحو الكلي، فهي ظواهر فرادية ينبغي على النظرية اللسانية أن تهتم بها.
وتتجلى القيمة الإبستمولوجية لهذا الأسلوب في إنقاذ
النظرية الجيدة، فقد أبان تاريخ العلم أن النظريات العلمية الكبرى ما كانت لتفرض نماذجها
لو أنها اعتدت بالتأويلات الحسية العادية، أي بمعطيات الملاحظة المباشرة، فعلى الباحث
أن يتسامح بأن تظل الظواهر بدون تفسير، وما يتولد عن هذا الأسلوب هو إفراز علوم جديدة:
كنظرية الوسم في النحو التوليدي، ونظرية الحركة الحقيقية (نظرية المواد الصلبة والدينامية)
عند غاليلي. إن الجامع بين تشومسكي وغاليلي عند بوطا هو كونهما معا دشنا فترة جديدة
في تاريخ البحث العلمي، الأول في مجال اللغة والثاني في مجال الفيزياء. وإتباعهما منهجا
محوريا في البحث العلمي، من حيث إعادة بناء أسس جديدة للبحث العلمي، وأن الثورة العلمية
لا تأتي من مجرد نقد للمفاهيم أو التصورات التي تقام حول الظواهر، وإنما من نقد جذري
للمحاور التي تؤسس الاستدلال. يقول تشومسكي واصفا أسلوبه في دراسة اللغة: "يبدو
لي أن أمثلة النحو كبنية معرفية لها خصائص، تستجيب لبعض المبادئ وفي تفاعل مع بنيات
أخرى، أعتبرها (أي الأمثلة) فرضية عمل عقلانية بررها اكتشاف المبادئ التفسيرية النوعية
للنحو. ومن المشروع قبول أمثلة النحو كنسق ممتلك لبنياته وخواصه، وفي الآن نفسه قبول
فكرة كون النسق الواقعي لنحو لغة ما لا يمكن أن يحدد بمعزل عن مسائل الاعتقادات… إن
دراسة اللغة تشكل جزء من مقاربة عامة: الوصف التمحيصي لبنية الذهن. فحسب هذه الفرضية
من الممكن الاستمرار في اعتبار النحو قالبا منفصلا عن هذا النظام العام والشروع بعد
ذلك في دراسة خواصه النوعية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق