الرئيسية العقل عند الجاحظ

العقل عند الجاحظ

العقل عند الجاحظ
1-     العقل عند الجاحظ:
 من مظاهر عقلانية الجاحظ ما تجلى لديه من نزوع إلى التصنيف والترتيب والتبويب، إذ صنف الحيوانات ودرس أخبارها وقسمها إلى أربعة أقسام : قسم يمشي وقسم يطير وقسم يسبح وقسم يزحف، وهو تقسيم اهتدى إليه عن طريق المعاينة والمشاهدة. ويدل هذا التصنيف على توفر فكر منظم يرفض التشويش المعرفي، ومنهجية في البحث تقوم على وضوح المقاصد، وعمق الفكر. فقد كان الجاحظ مصنفا للعلوم، واضعا للقوانين العلمية التي توجهه إلى تمييز الصواب من الخطأ، وتمحيص الخرافي والعقلي. ويمكن تلخيص منهج المعرفة لدى الجاحظ في:
1-     وسائل المعرفة العلمية الثلاث:
§        الخبر القاهر.
§        العيان الظاهر.
§        العقل المستدل.
* الخبر القاهر:
يقصد به الجاحظ الرواية التي لا شك في صحتها من نوع ما يرويه الرواة الثقاة. يقول: "إذا لم يأتنا في تحقيق الأخبار شعر شائع أو خبر مستفيض لم نلتفت لفتة". * العيان الظاهر: ويقصد به المعاينة والتجربة أما المعاينة فهي ترتكز أساسا على ملاحظة الحيوان في طرق عيشه وطباعه وغرائزه. ويلخص ذلك قوله: " وليس يشفيني إلا المعاينة". أما التجربة فتكون عادة لتصحيح الخبر وتقريره إن ثبتت استقامته.
* العقل المستدل: هو الحجة النهائية والمرجع الأخير في تصحيح الأخبار وتصويب المعاينة، لأن الحواس تخطئ. فبالعقل يكون اليقين، ويبقى العقل المستدل السلطة الخيرة القادرة على تأسيس المعرفة. 
(2) طريقة البحث وطلب المعرفة: 
يعتبر الجاحظ أن امتلاك أدوات علمية دقيقة غير كاف للبحث، بل يجدر بنا أن نحسن استعمالها ودرك سبل توظيفها، وهذا الاستعمال سماه الجاحظ "الشك طريق إلى اليقين"، وهو أسلوب يعتمد جملة من القواعد يمكن حصرها على هذا النحو في :
أ‌ -عدم قبول الخبر مسلما، وعدم تكذيبه مبدئيا. "لا يعجبني الإقرار بهذا الخبر ولا يعجبني الإنكار له".
 ب‌- معالجة الخبر لمعرفة مواطن الضعف فيه، وهي معالجة تؤدي بالباحث إلى اليقين. "اعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف مواضع اليقين والحالات الموجبة له". فالشك عند الجاحظ منهج معلوم الحدود، لم يتخل عنه أثناء بحوثه بل مثل جوهرها. 
ج- الشك علامة من علامات وجود العقل، بل دال هام على صحته، وقد يعود هذا إلى الاتجاه الاعتزالي. يقول محمد عابد الجابري في كتابه "بنية العقل العربي" : إن الجاحظ المتكلم لم يكن معنيا بقضية "الفهم" فهم كلام العرب وحسب، بل لقد كان مهتما أيضا، ولربما في الدرجة الأولى، بقضية "الإفهام"، إفحام السامع وإقناعه وقمع المجادل وإفحامه... إن ما سيشغله أساسا هو شروط إنتاج الخطاب وليس قوانين تفسيره". 
(3) المنهج الفكري: 
يتميز منهج الجاحظ بخصائص، أضحت له مذهبا، ويمكن اختزالها في المميزات التالية:
1-     النقدية:
 لا يكتفي الجاحظ بعرض فلسفته الطبيعية والكلامية والجمالية والخلقية، وإنما ينتقد المذاهب الفكرية الأخرى، كالشيعة ، والخوارج، والمرجئة، وأهل الجماعة، كما ينتقد المسيحيين واليهود والمجوس والدهرية. وطعن في فلاسفة كبار أمثال أرسطو والنظام. وكان الجاحظ موضوعيا في نقده، فلا يتجنى على أحد، ولا يحاسب أحدا إلا بما فيه، أو على ما قاله. 2- الجدلية: فهم الجاحظ الجدل بمعنى المناظرة أو النقاش الذي يدور بين شخصين يمثلان أفكارا متناقضة، ولهذا بنى جدله على التناقض. واستخدمه كما استخدمه إفلاطون وسقراط وسيلة للكشف عن الحقيقة عن طريق احتكاك الآراء التي يتولد فيها نور اليقين.
2-     الاستقرائية:
الاستقراء هو النظر في الوقائع الجزئية لاستخراج حكم كلي عند البحث في أمر من الأمور . أو هو سير الفكر من الخاص الفردي إلى العام الكلي.
3-     الاستطرادية:
الاستطراد هو الخروج من موضوع البحث إلى موضوعات أخرى بعيدة أو قريبة منه، والجاحظ من هذه الجهة لا يحافظ على وحدة الموضوع بل يقحم فيه موضوعات جانبية وغريبة.
4-     الشكية:
 إن الشك الذي لازم الجاحظ حمله على عدم التسليم بالأخبار والآراء التي يسمعها أو يقرؤها إلا بعد الفحص والتدقيق والملاحظة الشديدة، لأنه يعتقد أن آراء الناس وأخبارهم عرضة للضلال والكذب، كما أن الظواهر الطبيعية تخفي تحتها حقائق أو نواميس يجب البحث عنها وعدم الاكتفاء بمعطيات الحس الخارجية.
5-     الشمولية:
 تعني النظرة المحيطة للكون، وعدم الاقتصار على ناحية واحدة منه وإغفال سائر النواحي. وتعني الشمولية عند الجاحظ الثقافة الواسعة، فقد ألم بمختلف حقول المعرفة من فلسفة وكلام ودين وطبيعيات وحيوان ونبات وإنسان وأخلاق واجتماع وسياسة وتاريخ وأدب، وقد كتب في جميع الموضوعات تقريبا.
6- الواقعية:
بمعنى الالتزام بمعطيات الواقع المحسوس، والرغبة عن الأمور الوهمية التي لا علاقة لها بالحقيقة والواقع. كان الجاحظ ينطلق في تفكيره من العالم المادي، ولا يأخذ بالخرافات والأساطير والغيبيات التي تنسجها المتخيلات المجنحة، ويهاجمها وينتقد القائلين بها. ومن مظاهر الواقعية التزامه بالمشاكل التي تهم عصره، والموضوعات التي عالجها استقاها من صميم ذلك العصر، فقد قدم لنا في كتبه صورة واضحة منفصلة عن عصره من جميع النواحي الفكرية والدينية والاجتماعية والخلقية والعلمية والأدبية والسياسية.
7- العقلانية:
نعني بالعقلانية عند الجاحظ أمرين:
الأول تحكيم العقل والثقة به في جميع الأمور.
 والثاني اللاذاتية.
أما تحكيم العقل والثقة به فأول ما يطالعنا في آثار الجاحظ. إنه مفكر ملك ذكاء متوقدا ومنطقا سديدا تمخض عن فلسفة وضعية للعالم لها معالمها وأصولها المميزة. وهو عقل نهم للمعرفة يحدوه فضول غريب على النظر في الأشياء ومحاولة سبر أغوارها وإماطة اللثام عن حقائقها. أما اللاذاتية فترجع إلى ضعف عنصر العاطفة في كتابة الجاحظ، إذ لم يكن انفعاليا عصبي المزاج، بل غلب فيه العقل على العاطفة حتى كاد يمحو لها كل أثر من آثاره.
الخاتـمة:
لم يكن عقل الجاحظ رغم صرامته المنهجية و رصانته في التفكير، بمنأى عن التقصير و الوهن، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية لا يجوز الإغضاء عنها، فقد كان الرجل معيبا في المستويات التالية:
 - اعتمد السماع والرواية أكثر مما اعتمد المعاينة والتجربة، حتى في أبحاثه الطبيعية كما هو ظاهر في كتاب الحيوان، وقد يشفع له حال العلوم في عصره وما كان يعتورها من الضعف وقلة الوسائل الاختبارية.
 - يقر الجاحظ أنه كمسلم مضطر إلى الاعتراف بما جاء في القرآن بالحج الاضطرارية نظرا للعلة التي تقتضيه التصديق، فإذا كانت تلك صحيحة كان إقراره صحيحا، وإذا لم تكن صحيحة أدرك أن خطأه ناتج عن التأويل، والعلة التي يعنيها هي الإيمان بالله ورسوله وكتابه الذي يستتبع التصديق بما جاء في ذلك الكتاب.
 - كثرة الاستطراد ، فتتداخل المواضيع، وتختلط القضايا. وقد يعود ذلك إلى غزارة المعارف التي خزنتها الذاكرة، أو رغبة الجاحظ في جذب انتباه القارئ ودفع الملل عنه
. - غلبة الطابع الفكري الجامد في آثاره، فلا تحرك فينا شعورا ولا تثير إحساسا، ولا حضور فيها للذات.

إن الجاحظ في نهاية الأمر، أوسع من أن تنقص منه هذه الهنات، فقد التقت فيه ثلاث مزايا : الموهبة الأدبية، والفضول العلمي، والفكر النير، ولذا يمكن عدّه أديبا وعالما وفيلسوفا. ولم يجتمع هذا لأحد ، فقد جمع أفلاطون الأدب والفلسفة، وجمع أرسطو العلم والفلسفة وجمع سارتر الفلسفة والأدب ، أما الجاحظ فجمع العلم والأدب والفلسفة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.