الأنظمة الرمزية وحاجة
الإنسان إلى التواصل
ساد الاعتقاد بأن الأنظمة الرمزية تحقق التواصل خاصة وأن وسائل الاتصال
تطورت وشملت كل الأنظمة وكل الناس إلا انه لا مناص من التشكيك في نجاعة هذه الوسائط
في تحقيق مطلب كلي إنساني ألا وهو التواصل الذي يطرح سؤال “هل تستوفي الأنظمة الرمزية
حاجة الإنسان إلى التواصل؟
وفي تطرق الفلسفة لمثل هذه الأشكال غرابة كبيرة في عصر تحكمه النجاعة
والمردودية والتواصل جعل العالم قرية صغيرة ولكن غرابته هي التي تجعله
فريدا إذ متى كان الفيلسوف في وفاق مع عصره ؟ومتى كانت أسئلته تقاس بمدى نجاعتها أو
مردوديتها في الواقع ،بل كانت دائما تقاس بمدى تحقيقها للرهانات الفلسفية وللمطالب
الكلية الإنسانية.
فهل حققت الأنظمة الرمزية التواصل كمبدأ إنساني كلي أم حالت دون تحققه؟
وكيف تجسد تحقيقها في الواقع للتواصل؟ وماهي تجليات عرقلتها لهذا الرهان ؟
وإذا سلمنا جدلا بان الأنظمة الرمزية حققت مبدأ التواصل إلى أي حد كان
اضطلاعها بهذه القيمة مجديا؟ تتجلى قدرة الإنسان على غيره من الكائنات بالترميز ،فالخاصية
الترميزية هي خاصية النوع البشري بامتياز ،لذلك رمز أفكاره ورؤاه في شكل أنظمة رمزية
فما المقصود بالأنظمة الرمزية ؟ الأنظمة الرمزية هي مجموع الوسائط أو الوسائل التي
ابتدعها الإنسان منذ وجوده لتحقيق حاجياته
وتأصيل تمركزه في الوجود وتحقيق مبدأ التواصل بما هو تبادل الآراء والأفكار
والتجارب ويقتضي طرفين هو ذات
وذات أخرى وقناة اتصال تربط بينهما علاقة تأثير وتأثر ويقتضي التكافؤ بين
الطرفين فنحن لا نسمي تواصل الأوامر التي يلقيها القائد لجنوده على سبيل المثال.
وإن تطرق الفلسفة إلى علاقة الأنظمة الرمزية بالإنسان ليس من الجدة بشيء
فهي تعد من القضايا الممعنة في القدم بدءا بالأسطورة وصولا إلى عصر الصورة فالأنظمة
الرمزية تحدد مسافة سفرنا الانطولوجي من الوحدة إلى الكثرة ومن الغربة إلى الإنس ومن
وحدة الذات المعزولة إلى معية الأخر المتكاملة
والإنسان بتتويج نفسه سيدا على الطبيعة سعى إلى تكريس الوسائط الرمزية
للتواصل مع ذاته ومع الأخر ومع العالم ففي تواصله مع ذاته ، بنى الإنسان صرح اللغة
أملا في أن تترجم كنه أفكاره ويزال اللبس عن ما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس مما
جعلها رداء الفكر واللغة مؤسسة اجتماعية وهي من إنتاج الجماعة تكرس لغاية التواصل والإنسان
عرف قديما بالنطق أي انه حيوان ناطق “أو حيوان عاقل” مما جعل النطق مساويا للغة ووجود
اللغة في حد ذاتها يذكرني بوجود الأخر الذي يقتسم معي فضاء البينذاتية
، ويشاركني في هذه اللغة وهذه الرموز ،والإنسان لا
يتواصل مع الإله إلا عن طريق الألفاظ والكلمات فضلا عن أن خطاب الله للإنسان كان كذلك
عن طريق اللغة وما الكتب السماوية من قرآن وأنجيل وتوراة إلا دليل عن أن اللغة محققة
فعلا مبدأ التواصل حتى ما بين الإنسان كقوى مادية والله كقوى غيبية ،إذا بحثنا داخل
هذه النصوص السماوية فسنجد أن خلق الإنسان كان من خلال اللغة فاضطلعت عبارة “كن” ب
كينونة الإنسان وبتحقيق التواصل بين الإنسان وخالقة .
واللغة مكنت الإنسان من التواصل الظرفي والآني وعوضت عالم الأشياء بعالم
الرموز فمثلا يمكن أن يشير الإنسان إلى وجود ثور بمجرد قول “هناك ثور” عوض إحضار الثور
والإشارة إليه ،وإذا كانت اللغة المنطوقة موظفة للتواصل بين الأنا
والأخر لتلبية الحاجات الطارئة والظرفية وتبليغ المشاعر من خلال الإفصاح
عنها فان اللغة المكتوبة هي اشمل للتواصل بين الناس لذلك أصر ديكارت على الكتابة باللغة
الفرنسية في زمن كانت اللغة اللاتينية هي الطاغية فلم تعد الكتب حكرا على الكنائس والقصور
بل اقتحمت كل المنازل ،ومن مزايا اللغة أيضا كوسيط رمزي تمفصلها الذي يمكننا من التعبير
عن الحاجيات بألفاظ محدودة فاللغة العربية مثلا تمكننا من التعبير عن كل ما يخالج النفس
بعدد محدود من الأحرف فعوضت بذلك الأصوات المبهمة بأحرف واضحة ففي غياب اللغة يصبح
الإنسان خاليا من المعنى على حد عبارة روزنتال .
كما أن الإنسان بوصفه كائنا رامزا وظّف رؤاه للعالم من خلال المقدس الديني
حتى يعبر عن انتمائه لعقيدة بعينها فكان انتمائه للدين بوصفه مؤسسة اجتماعية تجمع بين
أفراد ينتمون إلى نفس العقيدة ويقيمون نفس الشعائر الدينية تعبيرا عن تجذره في الواقع
،فالقيام بالطقوس الدينية في إطار جماعات يعزز انتماء الفرد للمجموعة
ويؤصله في الوجود ويمجد التسامح
والتضامن والتواصل بين الأنا والأخر كما إن الدين هو تواصل الإنسان مع
العالم.الإنسان لا يستطيع أن يتواصل مع الطبيعة وهو يشعر بخوف منها فكرس له الدين ذلك
الشعور بالاطمئنان والحماية حتى يتفاعل معها.
كما تضطلع الأسطورة بتحقيق التواصل بما هي حكايا تسرد الوقائع تمزج الحقيقة
والخيال ،تؤصل تواصل الإنسان بالإنسان في عالم سحري ،لا يعترف الفرد فيه
بوجود الأخر فحسب بل يقتدي به في تحديه للواقع وهزمه لمعضلات الحياة
وما برومتيوس وأنتيغون إلا أسوة وقدوة للإنسان في فضاء البينذاتية الذي
يمجد لقاء الإنسان بالأخر كما أنها تؤصل وجود الإنسان في العالم وتواصله معه فهي تذكر
الإنسان بجوهره وحقيقته وأن له القدرة على الرفض وقول “لا” في وجه مكامن الطبيعة .
ولعل الصورة هي أكثر الوسائط الرمزية تعبيرا فقد دأب الإنسان منذ القدم إلى تبديد حيرته
من خلال رسم حيرته
وتأملاته ومشاعره داخل الكهوف على جدرانها ويواريها عن الأنظار بحكم خصوصيتها
،ثم إن تلك الرسوم كانت احتياجات وضرورات وميولات ففي الصورة تختزل الرسالة ولا تجهد
الفكر فعبرت عن مشاغل الحياة واختزلت أوضاع المجتمعات في رسالة بصرية إلى الأخر .
كانت بالتالي الأنظمة الرمزية الممر الأمثل للوصول إلى الأخر و لطريقة
المثلى للتعبير عن ما يخالجنا إلا أن طرح إشكال هل تستوفي الأنظمة الرمزية حاجة الإنسان
إلى التواصل اقتضى منا تسليما ضمنيا بحاجة هذا الكائن للتواصل لتلبية حاجياته ولتأصيل
وجوده بما أن التواصل ليس مجرد رغبة بل هو حاجة مؤكدة يقتضي منا تسليما بوجود الأخر
بما أن الأخر لا يمكن الالتقاء بهالا في فضاء البينذاتية ،ومن المسلمات الضمنية أيضا
التشكيك في مدى ما أبدعه الإنسان من أنظمة رمزية في تحقيق حاجياته التواصلية المعيشية
و بالتالي التسليم بنسبية تحقيق الوسائط التي ابتدعها الإنسان لمبدأ التواصل.
إلا انه لا مناص من الاعتراف بان الأنظمة الرمزية حققت تواصلا كونيا ،هذا
الرهان الفلسفي الذي سعى الإنسان إلى تحقيقه من خلال تحويل عالم الأشياء إلى عالم رموز
فيكون التواصل بين الذات
وذاتها وين الذات والأخر ثم يتوج الإنسان ملكا على الطبيعة وسيدا عليها
.
إلا انه على الأنظمة الرمزية أن تكف عن الإدعاء بطواعيتها وبشفافيتها وببداهتها
،لان الخطاب الفلسفي جاء ليفضح خلفيتها ووجهها الآخر الذي كرس العزلة والوحدة والاغتراب
وساهم في إبعاد البشر عن بعضهم ،فالإنسان صانع اللغة لكنه أول ضحاياها لأنها لا تعبر
عن مشاعره بدقة ،فلكي نعبر عن مشاعرنا اللامادية من حب و كراهية و حزن وجب علينا تحويلها
إلى جماد لذلك هي قاصرة عن تحقيق التواصل بين الأنا وذاتها .
كما أن اللغة أداة لتعزيز الهيمنة والقمع “فاللغة فاشية ،أن يخطب هو أن
نخضع” وفق عبارة رولان بارت ولعل ابرز دليل على ذلك هو ا ناول ما يفعله المستعمر لمستعمره
هو تعليمه لغته فهي أداة للتسلط والقمع.
إضافة إلى ذلك أن اللغة قاصرة عن التعبير بدقة رغم كثرة تمفصلاتها ودلالاتها
فلفظة حزن مثلا لا توصل الشعور بدقة كما أنها تعبر عن حالات مختلفة ولكي نبرهن أن اللغة
فشلت في تحقيق التواصل يمكن أن نتحدث عن تجربة الموت ففي موت صديق ،اجهل انأ هذا الحدث
في حين يبقى الحزن تجربتي ،فنحن نولد ونموت أفرادا لا الأخر يعيش هذه التجربة ولا الأنا
يحس بمرارتها و سعادتها ،كما أن الإنسان عاجز عن تبليغ أفكاره بدقة وما أكثر تذّمر
البشر من خيانة العبارة ،كما أن اللغة ممر للمغالطة خلال الاستعارات الزائفة
والكناية الميتة علما وأن السفسطائيين هم أول من أشار للفلسفة بمعضلة اللغة
،فهل لنا أن نبرا مقدساتنا من المشاركة في عزل الذات مع أنها مصدر إجلال وعظمة ؟.
رغم أن التشكيك في مقدساتنا هو أسوء ما يمكن أن نصل إليه ،إلا أنه لا يخلو
أيضا من تكريس لعزلة الإنسان فالدين مثلا عندما يصل بالمرء إلى مرحلة التطرف يخرج الإنسان
من عالمه المعيش ليجعله يفكر في عالم الغيبيات الذي لا سبيل للولوج إليه حيث أن الدين
وجد لمجرد الشعور بالأمان كما أن الفهم الخاطئ له يؤصل الحروب عوض تكريس التسامح
والتواصل.
” فأكثر الحروب ضراوة تلك التي قامت على العقيدة”
على حد تعبير ابن خلدون فتتردد على مسامعنا مجموعة من الألفاظ الغريبة مثل الحقد المقدس
لأنه حقد لأجل عقيدة أو مذهب ديني أيعقل أن يكون الحقد مقدسا؟ كما أننا شهدنا حروبا
قامت لأجل عقيدة أسعف جرحاها من سيارات إسعاف عليها صليب المسيح أو هلال الإسلام
ولعل الحروب الصليبية هي اكبر شاهد أن الدين لم يكرس التواصل انه أفيون
الشعوب لا غير ،إضافة إلى أن الدين يكرس الجهل فالإنسان يخاف الطبيعة ولا يعلم ووظائفها
فيعتبر أن الكوارث الطبيعية عقاب الإله
وأن صحو الجو مكافأته جاهلا بحقيقة هذه الظواهر الطبيعية والدين يؤصل هذا
الجهل ويكرسه الم تقتل الكنسية “قاليلي” لاكتشافه دوران الأرض؟
كما أن الأسطورة توقف التاريخ وتعطل التواصل بما هي تشجع العقل على الخرافة
و الزيف و الخيال وتعطل ملكته على التفكير فيما هو مجدي للتمسك بالأوهام فيعتبر مثلا
أن العمل عقاب ألحقه الإله بسبب الخطيئة الأولى لأدم.
كما أننا لا نبرئ الفن من تكريسه لاغتراب الإنسان و تعطيله لمبدأ التواصل
فهو الواعد بالسعادة على حد تعبير ستندال فلوحة الفنان محاولة لهروبه من الواقع وولوجه
عالما سحريا منعزلا يعيشه الفنان لوحده و ما أدل لوحات “دافنشي” على هذا الاغتراب و
الهروب ،وهكذا وظّفت أدوات التواصل لقتل التواصل فماهو إذا الرهان الذي قادنا في هذا
الحكم؟
إن ما نراهن عليه من خلال هذه القراءة
ومن خلال النبش في التاريخ لا يقايض الفكر هو المعرفة ،معرفة مدى تحقيق
الأنظمة الرمزية لمبدأ التواصل وهو إلحاح على معرفة الوجه الأخر للإبداع الإنساني و
فضح نقائص هذا الكائن الذي قدر له أن يكون ضحية لما صنعه وأبدعه كما أن تطرقنا لمثل
هذه القضية هو تطرق إلى سلبيات الأنظمة الرمزية التي وجب علينا أن نتعامل معها بحذر
إضافة إلى أن مجرد طرح سؤال هل أن الأنظمة الرمزية تستوفي حاجة الإنسان إلى التواصل
هو جلب لانتباه الإنسان نحو هذه القضية ليشكك فيما كان يثق به دائما وليحل الفكر محا
الدغمائية والوثوقية وفي نهاية المطاف آن لنا أن نفرق بين التواصل كرهان و التواصل
كواقع لان سبله غير كفيلة بتحقيقه.
لئن ابتدع الإنسان أنظمة رمزية ليتسيد على الطبيعة ويتواصل مع الأخر ،فبلغ
مراده إلى حدّ ما فقد تمكن من تحقيق مأربه و انغمس مع وسائطه في الواقع حتى نسي الوجه
الأخر لها فكانت دغمائية هذه الأنظمة الرمزية مصدر شقاء جديد خاصة في العصر الراهن
والتشكيك فيما أنتجه الإنسان أو بالأحرى التشكيك حتى في مبدعه وخالقه.
فهل آن الأوان لنرمي بالعقل البشري عرض الحائط فتفكر عنا السلطة والسائد؟
هل من سبيل لتحقيق التواصل خاصة وأن أزمته تزداد يوما بعد يوم؟وهل آن الأوان
للفلسفة أن تعلن استسلامها وتنسحب في ظل قهقرة الخطاب العقلي أمام الخطاب الغريزي أم
أن حلولا أخرى ستجدها كل من الفلسفة والفن لإخراج الإنسان من ظلمات الغريزة إلى نور
الفكر؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق