فلسفة جون بول سارتر
ظهرت الوجودية كرد فعل وثورة على التيار
الأغوستيني والبروتستني القائل بأسبقية الخطيئة على وجود الإنسان كما هو معروف في المسيحية،
وهي أسبقية ينظر إليها الوجوديون على أنها حركة جبرية تُلغِي المسؤولية الفردية وتُقيم
فجوة بين الإنسان وقيمته في الوجود..فجاءت الثورة بإعلان نيتشه موت الإله والتأسيس
للشخصية المتناقضة مع الجمهور ومقولته بأن قيمة الإنسان من حيث هو فرد تعود إلى حريته.
ثم مع زعزعة أسس علم الأخلاق وانهيار القيم على يد فرويد ونظريته في التحليل النفسي
اللاشعوري تغيرت نظرة الإنسان الغربي تجاه جسده وذاته. ثم مع سقوط سلطة العقل وخفوت
سلطانه في الغرب إثر ظهور الإتجاهات المناهضة للنزعة العقلية تزامنا مع ظهور المدرسة
الظاهراتية في علم النفس وابتكار المنهج الفينومينولوجي على يد ادموند هوسرل زاد الإحساس
باللامعقول والعبث وانتفاء المعنى وظهر الفكر الأكثر سوداوية وتشاؤمية في تاريخ الفلسفة
برمتها، الفكر الذي تمت الدعاية له تحت غطاء السريالية والوجودية في ميدان الأدب وفي
الفن التشكيلي تحت مظلة الإنطباعية. وهو فكر يصور لنا الوجود كالغرفة المظلمة بتعبير
بول تيليتش، غرفة لا نوافذ فيها ولا مخرج وجود كله جحيم حيث تواجه الذات ذاتها وتواجه
الآخرين..وجود لا تدخله شمس لتضيء أبعاده، وفي هذه الحلكة لا نوم دائما عيون الإنسان
محدقة..إنها مواجهة يلقي فيها الإنسان بأسلحته من قبل أن يدخلها أو يخوض غمارها، يُلقي
كل ما يربطه بتاريخه وحضارته ومجتمعه وقيمه ومقدساته..ليس له من مرشد حسب تعبير تيليتش
سوى خيط أبيضٍ واهٍ هو أنه يعرف أنه ليس لديه مرشد!.. إنها فلسفة الذات فلسفة العزلة
التي وضع أسسها الأولى ديكارت ثم هوسرل بمنهجه الفينومينولوجي ومفاهيمه المثالية ثم
تهيكلت واتخذت أبعادها الوجودية على يد تلامذته هيدغر ومن ثم سارتر الذي عرفت معه الوجودية
أوج تألقها حيث لاقت فلسفته رواجا واسعا نظرا لشهرته الأدبية والمسرحية الواسعة وأيضا
لتزامنها مع ظروف الحرب وتفاقم الشعور باليأس والخوف والقلق، وهو تألق في الحقيقة يسبق
احتضارها على أيدي أتباع المدرسة التفكيكية البنيوية وما بعدها حيث زادت هذه المدرسة
خطوة أخرى وقطعت مسافة جديدة في طريق الإقتصاد نفس الطريق الذي انتهجته الوجودية ولكنها
خطوة هذه المرة أتت على إله الوجوديين حيث ألغت الذات وأعلنت موت الإنسان ونادت بدفنه
مع جميع التصورات المتصلة به من إرادة وشعور وتاريخ وتطور واستمرارية وارتقاء.
وفكر سارتر هو الفكر لذي ستنتاوله في هذا
الموضوع تناولا لن يكون بوضع فكر أو فلسفة مقابلة أو بديلة وإنما سنقصر نظرتنا على
مقدمات هذه الفلسفة وعلى الأنطولوجيا التي يقيمها سارتر على هذه المقدمات وعلى النتائج
التي ينتهي إليها، وسننظر في مدى مطابقة هذه النتائج للمقدمات التي بنيت عليها والأهم
من ذلك مدى مطابقتها للواقع كما يبدو للوعي أي كما يراه المنهج الفينومينولوجي ذاته.
المقدمة الأولى هي المنهج الفينومينولوجي
المنهج الذي يعتمد عليه الوجوديون عموما في فهمهم للوجود وفي رفضهم للتمذهب وما وراءه
من تأثيرات وتوجيهات سواء أكانت من الله أو من التقاليد والأعراف ولا حتى قوانين العقل
ومبادئه العامة. ثم سننظر في قضية سبق الوجود على الماهية وهي القضية المعبرة عن الموقف
الميتافيزقي لسارتر لننتقل بعدها إلى أهم مقولة في فلسفته وهي الإنفصال والملاشاة وهي
المقولة التي تعبر عن التركيب الأنطولوجي للوعي ومنها تتفرع أهم قضيتين في الفلسفة
الوجودية قضية الحرية المطلقة وقضية الفهم الوجودي للزمن وتعطيل التاريخ الحضاري.
المنهج الفينومينولوجي: المدرسة الظاهراتية
في علم النفس
سارتر وهيدغر أخضعا الوجودية إلى منهج
فلسفي هو المنهج الفينومينولوجي أو الظاهراتية التي ابتكرها الفيلسوف الألماني ادموند
هوسرل E.Husserl والظهراتية تعبر عن : "نضال
هوسرل ضد التيارات الوضعية والمدارس الطبيعية التي تسللت منهاهجها إلى علم النفس في
أروبا وامريكا الشمالية ومحاولته عدم الوقوع في الميتافيزيقا التقليدية" متخذا
بمنهجيته تلك موقفا وسطا بين المذاهب الذاتية والمذاهب الموضوعية..إضافة إلى استفادتهم
–أي الوجوديون- من نتائج وقوانين مدرسة علم نفس الشكل "الغشتلطية" وهي مدرسية
فينومينولوجية بدورها وسليلة الهوسرلية استقى منها الوجوديون ومن ورائهم البنيويون
مفهوهم للوعي القصدي ومنهجيتهم في الإدراك وخصوصا آلية الحدس الغشتلطي. والمنهجية عموما
ترتكز على ثلاث مراحل أساسية، الأولى هي تعليق الحكم suspension of judgement أو القصر أو الإرجاع الفينونمينولوجي
phenomenological
reduction
أي إضعاف المسلمات وإيقاف حكم العقل وعزل التأثيرات الخارجية بما
ذلك الله والعقل والمحيط ووضعها موضع شك أي بين قوسين بتعبير هوسرل bracketing وهي المرحلة التي تلائم كثيرا النتائج الوجودية من
حيث التأسيس لنفي الماهية المسبقة ومن ثم ظهور الحرية المطلقة التي تفرض على الإنسان
خلق ماهيته ومعانيه الخاصة..فالمرحلة الأولى إذن هي مرحلة تحررية إعدادية للمرحلة الثانية،
مرحلة شعور الذات بما وضع بين قوسين أي الشعور بجميع الأحكام الممكنة والمختلفة دون
أن ترتبط الذات بتلك الموضوعات وهي مرحلة إعدداية أيضا ولكن للمرحلة الأخطر مرحلة إرتباط
الذات بحكم من تلك الأحكام المختلفة عن طريق الحدس الغشتلطي. وميزة هذا الحدس أنه لا
يتعرض للخطأ من حيث أن الذات قد تحررت من سبب الخطأ حين تحررت من الإرتباطات والأحكام
ووضعتها بين قوسين. وهو حدس يقترب نوعا ما من الكشف الصوفي حيث يقوم الحدس بتحليل الظواهر
تحليلا وصفيا فطريا ومن ثم الإرتباط بموضوع من موضوعات تلك الظواهر أو حكم من الأحكام
، وهو اختيار حتما صائب أي بعكس التحليل العلمي أو الإستدلال العقلي! فكل شيء ظاهر
أمام هذا الحدس ولا وجود لما هو باطني أو مخفي، فالغضب الحقد الخجل المحبة ليست هي
حوادث نفسية مختبئة في وعي الآخر إنما على وجهه في حركاته وليست وراءها..وأحكام مثل
نافع ضار سيء رديء يجب وصفها بالحدس وصفا أمينا ساذجا كما يبدو للوعي أي يدرك بالقوى
الوجدانية لا بالقوى المعرفية تماما كما ندرك لون الزهرة او رائحتها. لهذا فإن مفردات
مثل تيار الوعي حقل الوعي هي مفردات مرفوضة في الفينومينولوجيا لأن جميعها تفترض وجود
شيء خفي حاوٍ للموجودات كما يعني أيضاً وجود الفكر المحض والذي هو بدوره مرفوض بحكم
أن الفكر هو دائما فكر بشيء ما، وإدراك هذا الفكر يكون بحدس عفوي وساذج. فهي باختصار
سيكولوجيا وصفية حدسية ليست تحليلية ولا تفسيرية.
جعلت الفينومينولوجيا من الحدس الطريق
الوحيد لاكتشاف الماهيات في حين أن الحدس لا ينبئ عن موقف عقلاني وهذا لا يضمن إعطاء
قيمة للحقيقة فالتأويل العفوي لتعبيرات الغير مثلا كأن أدرك انه غاضب بشكل عفوي وبدون
الرجوع لتجربتي الشخصية عن الغضب أو المحيط الإجتماعي أو كأن نتعاطف مع شخص ما بشكل
عفوي ليس صحيحا في كل الحالات..إذ قد نتعاطف فورا مع شخص ما ثم ما نلبث أن نرى الخطأ
الذي وقعنا فيه وقد نكره شخصا للوهلة الأولى ثم يتبين لنا فردا لطيفا محببا لا كما
أدركناه بالتجربة الفردية المعاشة. وقد أُسقط هذا المنهج على علم الإجتماع على يد الفيلسوف
الألماني جورج سيميل صاحب نظرية علم الإجتماع الشكلي وانتقد دوركايم وغيره من علماء
الإجتماع محاولة سيميل تأسيس علم اجتماع شكلاني يبقى محكوما بمبادئ وافتراضات صاحبه.
فحين نمتنع عن استخدام المعارف أو وسائل الضبط التي يفرضها بناء موضوعات شديدة التعقيد
نستسلم للنزوات الفردية فتهوي إلى منهج حيث المثل يصبح بديلا عن الحجة والمراكمة الإنتقائية
بديلا عن النظام.
كما أنكرت هذه المدرسة الذكاء وعجزت عن
تفسير الإختراع وذلك بجعلها من الذكاء استبصارا وحدسا وفسروا البرهان والإختراع العقلي
بقوانين مستقلة عن تاريخ الفرد وعن التجربة. نظريتهم في الذكاء أثارت انتقادات عديدة
ذلك أنها لم تجعل منه مجالا منعزلا وعادة فردية. وأصدق نقد لهذا المفهوم هو نقد الإبستيملوجي
بياجيه في كتابه الذكاء الذي يهاجم ردهم الذكاء إلى الإدراك فيقول : لا يتعلق بالحقل
الإدراك الراهن بل يتعلق أيضا بتاريخ الفرد كله.(3) وفي خاتمة كتابه "ولادة الذكاء
لدى الطفل ينتقد بياجبه إضآلهم من دور الذاكرة ونفيهم تأثير التجربة المكتسبة في حل
المشكلات الجديدة..كما أكد على أن فهمهم للذكاء سطحي إذ ليس لهم ما يقولونه أو يقدمونه
في مجال علم النفس الفارقي فالقوانين الشكلانية لا تستطيع تفسير الفروقات الفردية.
وهي نفس الأخطاء التي ورثتها البنيوية كما الوجودية عن المدرسة الشكلانية وهو قولهم
بأسبقية النسق عن التعلم والتجربة والتاريخ والتطور والتفاعل.
كما انتقد أندريه داربون A. Darbon انتقادا شديدا التيارات الفلسفية القائمة على الفينومينولوجيا
الألمانية التي يقول أنها تدعو إلى الإنغماس في المعاش وإعادة أكتناه كل القيم بالحدس
المباشر. إنها بنظره خادعة فلا شيء هو مباشر ولا تجربة إلا وهي معقلنة وفيها فكر ونضج.
ففي خاتمة المطاف ليس ما تصل إليه سوى ما هو متجذر في التاريخ والثقافة التي تريد هذه
الفلسفة جعلها بين قوسين. بل إن الإنتقاد قد بلغ بعض المقربين من الفينومينولوجيا أمثال
كاتس الذي يقول: "مهما يكن قربي شديدا من الغشتلطيين حول الكثير من النقاط بل
وحتى حول معظمها فإني لا أشاطرهم تماما جميع نظرياتهم أنا لا أعتقد أن مفهومهم قادر
على أن يشرح جميع الحوادث النفسية".(4) وبول ريكور عالم الإنسانيات المعاصر الذي
تبنى في الخمسينات منهجية الفينومينولوجيا وكان من أكبر دعاتها في فرنسا وقد قام بنقل
أحد أهم كتب هوسرل إلى الفرنسية إلا أنه في الستينات شعر بعجزها وقصورها فتخلى عنها
وتبنى منهجية التأويل Herméneutique التي تقول أن لكل نص ولكل فلسفة
معنيين الظاهر والباطن ونادى في كتابه "صراع التأويلات" بأنطلوجيا غير مباشرة
وعاب على هيدغر محاولته إقامة نوع من الأنطولوجيا المباشرة.
من المؤكد أن المنهج الفينومينولوجي هو
فلسفة كغيرها من الفلسفات ولا ندري ما إجابة الوجوديين لعدم وضعها بين قوسين مع جملة
المناهج والأفكار..أليست هي أيضا فلسفة ساقها إلينا الماضي والتاريخ وصارت حلقة من
حلقاته؟ ولماذا جُعِلَتْ هي الحكم على كل هذا الذي وُضع بين قوسين خاصة أنه وكما تبين
لا تقوى أمام النقد ونقائصها بالجملة، وكما سبق لنا الإعتماد على الأفكار والتجارب
الفينومينولوجية (الغشتلطية) في نقض شمولية الواطسونية نستطيع أيضا أن نعتمد على أفكار
الواطسونية في الإنعكاس الشرطي لنقض شمولية الفينومينولوجية وهذا ما سنلجأ إليه في
معرض حديثنا عن مقولة الإنفصال والملاشاة لسارتر كتقرير لمقولة ليبينتس في مذاهب علم
النفس بأن: "كل مذهب هو صحيح من جهة ما يؤكد وخاطئ من جهة ما ينفيه."
ومن جهة أخرى نستطيع التساؤل والنظر في
قدرة سارتر على تطبيق منهج الفينومينولوجيا سواء من حيث رفض التقليد ورفض الماضي وهو
ما يسمى في الأدب الوجودي بحركة الرفض الكلي Dadaisme أو من حيث تجنب التأثيرات الخارجية عند استخلاصه
لنتائجه الوجودية. فسارتر قد أخذ المنهج تقليدا (المصطلح المرفوض فينومينولوجيا ووجوديا)
عن هوسرل وهيدغر عندما كان بالمعهد الفرنسي ببرلين وهوسرل نفسه أخذه تقليدا عن أستاذه
فرانس برانتانو الذي أخذه بدوره عن منطق القرون الوسطى. يقول الفيلسوف الماركسي لوسين
سيف: "لقد نشأت الوجودية الفرنسية تحت تأثير "استيراد منتجات" ما أنتجه
الألمان". ويقول بول تيليتش أبرز مؤسسي الأنطولوجيا المعاصرة: "وقد رتب سارتر
عدة نتائج على كتابات هيدغر الأولى التي أعلن هيدغر نفسه في مرحلة تالية رفضه لها
..ولكنه يظل من المشكوك فيه ما إذا كان سارتر قد حالفه الصواب في قيامه بذلك وقد كان
من السهولة بالنسبة لسارتر أن يصل إلى هذه لنتائج مما كان عليه الأمر بالنسبة لهيدغر
لأنه في خلفية أنطولوجيا هيدغر يقبع المفهوم الصوفي للوجود الذي لا أهمية له بالنسبة
لسارتر...وذلك هو السبب في أنه أصبح رمزا للوجودية المعاصرة وهي مرتبة لم يستحقها بأصالة
مفاهيمه الأساسية"..أما عن تأثير المحيط في فكر سارتر فيظهر جليا من خلال تأثره
بقيم الحرية السائدة في الفكر الفرنسي عموما وهو الإتجاه الذي يشيع عند معظم الفلاسفة
الفرنسيين أمثال مين دي بيران ولوكييه وكورنو وبوترو وهي النقطة التي ميزت ساتر عن
الوجوديين الألمان. كما أن للاحداث السياسية والإجتماعية التي عايشها سارتر كالإحتلال
الألماني لفرنسا وانضمامه لحركة التحرير تأثيرا كبيرا في اتجاهه نحو الوجودية من قبل
حتى أن يتأثر بالوجودية الألمانية. يقول حبيب الشاروني : "فسارتر هو وجودي أصلا
بحكم رد فعله الشخصي على المواقف الإجتماعية في فرنسا وكذلك المواقف السياسية والحربية.
ثم هو بعد ذلك اختار هيدغر اختيارا حرا . فوجودية سارتر سابقة لديه منطقيا على تعلمه
وجودية هيدغر . وهي استجاباته الشخصية إلى المواقف المتعددة التي كانت تعانيها فرنسا...وأصبح
على الفرنسي أن يعيش حياته لحظة بلحظة".
سبق الوجود على الماهية: الموقف الميتافيزيقي
لسارتر
نظر الوجوديون وخاصة سرتر إلى الفلسفات
الماهوية (تلك التي تفترض سبق الماهية على الوجود) على أنها فلسفات جبرية تحتم سلوك
الإنسان بناء على صورته في ذهن الله أو بالنظر لفكرة عامة. فسبق الماهية كانت هي الرؤية
السائدة في الغرب إلى حدود القرن الثامن عشر ومعنى ذلك أن الإنسانية قد خلقت طبقا لفكرة
عامة، أو مفهوم عام أو نموذج عام يجب أن يكون عليه البشر. ولهذا لا يكون شيء اسمه الطبيعة
البشرية، إلى أن ظهرت فلسفات نقد الأديان والتشكيك في وجود الله فتحولت الفكرة من خلق
الله للإنسان إلى خلق الإنسان لنفسه. ومعنى ذلك أن الإنسان يبرز إلى العالم ثم يعرف
نفسه لتظهر الحرية في صورتها المطلقة. فجسدك لا معنى له وبالتالي افعل به ما تشاء وما
يحلو لك..سلوكك ملكك لأنه لا يوجد ما يحدد ما يجب أن يكون فالإنسان حر لأنه ليست هناك
أية ماهية تحدد سلوكه...فوجوده هنا سابق ماهيته بعكس النظرة السابقة.
تنقسم الماهية إلى عامة وخاصة وسارتر في
تقريره لسبق الوجود على الماهية لا يفرق بين الماهية الخاصة والماهية العامة وفي كلتا
الحالتين سنجد أن سارتر قد سقط في تناقض صارخ فلو قلنا أنه قصد الماهية العامة سنجد
أن الإنسان وقبل حصوله على أية ماهية له الحرية المطلقة في اختيار ما يشاء من الماهيات
العامة. أي له الحرية في أن يكون بشرا، في أن يكون ذكرا أو أنثى أو نباتا أو جمادا
أو حتى إلها. وهذا قطعا محال لأن الإنسان ليس له إلا أن يكون إنسانا وبالتالي استحال
سبق الوجود على هذا النوع من الماهيات..وإن قلنا أن سارتر قصد الماهية الخاصة أي مجرد
تحقيق الصفات والخصائص الجزئية التي لا تشمل النوع أو الجنس فسيفضي بنا الأمر إلى تناقض
من نوع آخر. لأن الإنسان في انطولوجيا سارتر لا يكون إنسانا موجودا في الواقع إلا بتحقق
تلك الخصائص أي حين تتحقق (الماهية) فلم يعد ثمة معنى إذن لجعل الوجود سابق على الماهية
لأن هذه الأحوال والخصائص التي تمثل مجال الحرية كافية لوحدها لتأسيسس الماهية الإنسانية
وإخضاع الإنسان لها. فليست الماهية هنا لاحقة على الوجود وليست كذلك سابقة له وإنما
في هذه الحال تكون مساوية للوجود.
نجد أيضا تناقضا صارخا بين قضيتين أساسيتين
في فلسفة السارتر وفي الفلسفات الوجودية عموما وهو التناقض بين مفهوم الحرية وقضية
سبق الوجود على الماهية..فالحرية في فلسفة سارتر ليست صفة للإنسان يمكن أن ترتفع عنه
بل هي عين وجوده يقول سارتر: "ليس على الإنسان أن يوجد مسبقا حتى يصبح فيما بعد
حرا..فلا فرق بين وجود الإنسان وبين وجوده حرا"(ويقول أيضا بأن الإنسان من حيث
تركيبه الأنطولوجي مقسور على الحرية..فالحرية في فلسفة سارتر ليست صفة وإنما هي ملازمة
للوجود. فوجود الإنسان تساوي في دلالتها أن الإنسان حر..يقول بول تيليتش عن هذه الفكرة
: "يتمثل ما تطرحه في أنه ليس للإنسان طبيعة جوهرية إلا في نقطة واحدة هي أنه
بوسعه أن يجعل من ذاته ما يريد وأن الإنسان يخلق ما هو عليه".
سارتر إذن من جهة ينفي الماهية الإنسانية
ثم يفترض من نفس الجهة ماهيته هو الخاصة ويجعلها سابقة أو مزامنة للوجود وهو قوله بأن
الإنسان من حيث التركيب الأنطولوجي للوعي مقسور على الحرية. أي أن الإنفصال المستمر
الذي يتيح الحرية هو طبيعة بشرية ملازمة لوجوده!
الإنفصال والملاشاة والتأسيس للحرية المطلقة
مقولة الإنفصال والملاشاة هي المقولة الوحيدة
التي يمكن في ضوئها تفسير الإنسان وفهم علاقته بالوجود من حيث أن سارتر قد جعل منها
التركيب الأنطولوجي للوعي..ففي ضوء هذه المقولة ينقسم الوعي إلى غير منعكس وهو شبيه
باللاوعي يتجه فقط نحو الأشياء الخارجية (الوجود في ذاته) ويقابله وعي منعكس وهو الوعي
الذي ينعكس على نفسه وعلى الأشياء (الوجود لأجل ذاته) أي الوعي الذي يعي الوعي. ومقولة
الإنفصال والملاشاة تعني أن الوجود الإنساني هو في حركة دائبة قوامها الإنفصال من الماضي
والإتجاه نحو المستقبل..أي أن الوعي قادر على الإنفصال عن حالته الراهنة ليقرر لها
المعنى الذي يختاره بمحض حريته..فالإنفصال يعني أن لا ماهية سابقة على الوجود الإنساني
وبالتالي ينفصل الوعي عن الموقف لتتولد وتتاح له الحرية المطلقة ليختار ما يشاء من
الماهيات ويضفي على المواقف التي انفصل عنها ما يشاء وما يريد لها من معانِِ. وبهذا
الترتيب يصل سارتر إلى تقرير الحرية الإنسانية المطلقة التي تعطي معنى وقيمة لهذا الوجود..والذي
يبقى بدونها (وجودا في ذاته) أي: عدما لا قيمة له ولا معنى.
أول سؤال نطرحه في ضوء هذه المقدمات هو
كيف استطاع الوعي أن يعي ذاته واعية بشيء ما؟ فالوعي في فلسفة سارتر هو دائما وعي بشيئ
ما كما يقرر ذلك المنهج الفينومينولوجي وسارتر افترض في انعكاس الوعي على ذاته وعيا
آخر يعي الوعي الأول وهذا ما يسمح بافتراض وعيا آخر يُمَكِّنُنَا من وعي هذا الوعي
الثاني وهكذا في سلسلة لا متناهية فضلا أن هذا الوعي السابق سيكون وعيا فارغا متضمن
لمعرفة استبطانية أي ليس وعيا بشيء ما كما قرر سارتر والمنهج الفينومينولوجي. يقول
حبيب الشاروني: "القول بأن الوعي يصف نفسه من حيث هو متأمل وواصف لنفسه هو قول
متناقض ويوقعنا في سلسلة لا متناهية تحتم ان يكون هناك وعي سابق دائما على كل وعي.
والقول أن الوعي يصف نفسه من حيث هو موضوع تأمل أعني من حيث هو موصوف هو أيضا قول متناقض
لأنه ينتهي بنا من جهة لوصف وعيا فارغا بينما نحن قد رأينا أن الوعي عند سارتر لا معنى
له إلا من حيث هو وعي بشيء ما. وهو من جهة أخرى لا يقدم لنا أنطولوجيا كاملة عن الإنسان
لأنه لا يصف الإنسان من حيث هو وعي يقوم بالتأمل وينعكس على ذاته وإنما يقتصر على وصفه
من حيث هو موضوع تأمل فقط"
النقطة الثانية هي رؤية سارتر للوجود والعدم
والتي يؤسس عليها مقولته في الإنفصال والملاشاة وهي في الحقيقة رؤية تعميمية لقانون
الصورة والأرضية المعتمد في مدرسة علم نفس الشكل وتحديدا مدرسة كُرتْسْ النمساوية.
ويقول القانون بإمكانية إدراك معانِِ مختلفة في نفس المعطيات الحسية وحسب المشيئة وحدها
نمنح تلك المعطيات الحسية المعنى الذي نريد أو نرغب فيه وأن تلك الإدراكات لا تحصل
بطريقة متزامنة فإذا بدا واحد اختفى الآخر. فإذا اتجه الوعي نحو الموضوع المقصود لعب
هذا الموضوع دور الصورة وظهر للوجود ولعب ما دونه دور الأرضية وألقي في العدم لا قيمة
له ولا معنى ما لم تتوجه نحوه الإرادة والحرية فتجعله موضوعا لها تخرجه من العدم إلى
الوجود أي تخرجه من الأرضية إلى الصورة. وقد مثل سارتر هذا القانون بشخص يبحث عن صديق
له في مقهى..فالوعي وبعد الإنفصال سيتجه نحو هذا الصديق ليمنحه كل الوجود والقيمة في
حين سيلقي بالآخرين بما في ذلك الكراسي والطاولات في العدم أي في الأرضية حيث لا قيمة
لهم ولا وجود أصلا. ومن الملاحظ أن سارتر قد عمم قانون الصورة والأرضية وجعله أساس
فلسفته في الوجود والعدم وليستنتج أن الإنسان هو من يضفي معانيه الخاصة على الوجود
فالإنسان في فلسفة سارتر لا يأتيه شيء من خارجه ولا يفرض عليه شيء لأن كل شيء قد اختاره
بمحض إرادته. كل شيء يحصل في الوجود هو انعكاس لاختياري الحر الذاتي فلا وجود للصدفة
ولا وجود لحالة اجتماعية تظهر بشكل مفاجئ وتجذبني إليها. إن مثل هذه النتائج الخطيرة
التي ينتهي إليها سارتر هي من جهة متناقضة مع الواقع ولكنها من جهة أخرى مترتبة ترتيبا
منطقيا على المقدمات التي بدأ منها والتي تعتبر التركيب الانطولوجي للوعي انفصالا مستمرا
من المواقف المختلفة مما يترتب عليه حرية الوعي إزاء تلك المواقف مما يتيح للوعي أن
يضفي على الواقع معاني مختلفة حسب حرية الوعي. وسنقصر نقدنا على بعض النماذج لنبين
مدى سذاجة النتائج التي انتهى إليها فمن ذلك موقفه من الحرب فالجندي حر وإن كان في
جبهة القتال يقول سارتر : "هذه الحرب هي حربي أني مشترك بها لأني دائما كنت أستطيع
أن أتخلف عنها..أستطيع ان أصبح هاربا من الخدمة أو أنتحر وإذا لم أفعل فهذا يعني أني
اخترتها وأحمل مسؤوليتها."
وتزداد نتائجه غرابة عند الحديث عن ضحايا
وأبرياء هذه الحرب فقد تبنى سارتر مقولة جون رومان (( لا يوجد في الحرب ضحايا أبرياء
)) مشيرا إلى أن الجميع قد اختاروا الحرب بمحض حريتهم بما في ذلك أولئك الذين فرضت
عليهم أو من نسميهم ضحايا من حيث قدرتهم على الإنفصال عن المواقف التي هم إزاءها ومن
ثم إضفاء المعنى الذي يريدون. بحكم أن الحرب هي بدورها أحد المواقف الخاصة بهم !..وهنا
نتسائل هل الإنسان بإمكانه فعلا الإنفصال عن الحرب؟ ربما ذلك صحيحا نوعا ما إزاء الجندي
المرتزق ولكن في العموم أليس من العبث أن نقول بأن الجندي ينفصل في كل حركة من حركات
خوضه الحرب؟ أليس من العبث القول بأنه حر في أن ينظر للمعركة على أنها وسيلة تسلية
أو لامبالاة؟ إن الحرب تفرض معانيها الخاصة على الجندي. فما من خيارات أمام هذا الجندي
في جبهة القتال إما أن يَقتل وإما ان يُقتل ..وكذلك من العبث أن نقول أنه حر في أن
يتمارض أو يهرب من الجندية فالثاني سيحاكم وسيعيدونه للصفوف الأمامية للمعركة هذا إن
لم يعدم والأول سينكشف أمره وسيرجع للمعركة..أما إن نظرنا للحرب بمعناها الأوسع أي
تلك التي تأتي على النساء والأطفال والمرضى والشيوخ سنجد أن فلسفة سارتر بمقدماتها
ونتائجها تتهاوى أكثر فأكثر..فالحرب تفرض قسوتها على الناس فرضا فلا يمكن للطفل الصغير
أو الأم التي تحضن طفلها داخل الخندق أن تنظر للحرب وتضفي عليها ما تختار بحرية من
معاني ودلالات. إنها لا تستطيع أن تنظر للحرب باعتبارها تسلية أو موضوع لامبالاة إنها
ليست حرة في أن تختار ما تشاء إزاء الحرب إن معاني الرعب والخوف مفروضة عليها فرضا.
إنها مجبرة بحيث يصبح من السخف القول أنها تنفصل عن الحرب لتضفي عليها ما تختار من
معان وأحاسييس!
من الأمثلة أيضا إمكانية المريض في فلسفة
سارتر الإنفصال عن المرض وأن يلاشيه (ينفيه) كي يضفي عليه من عنده معانيه الخاصة فالمرض
في ذاته لا يملك أيَّة دلالة (وجود في ذاته) وإنما هو يستمد دلالته ومعناه من المريض
نفسه وهذا المعنى متوقف على قصد المريض فبالإنفصال عن المرض يحصل المريض على حريته
تجاه المرض فينظر إليه باعتباره عائقا أو باعتباره شيئا مؤلما أو باعتباره شيئا لا
يستحق أي مبالاة. وهنا أيضا نتسائل هل في إمكان المريض أن يعتبر الآلام التي يسببها
مرض شديد على أنها موضوع إهمال ولامبالاة ؟.. ألا يفرض المرض في هذه الحالة معانيه
هو الخاصة على المريض ؟ ففي حالة العذاب الشديد الموجع والمؤلم لا يستطيع الوعي أن
ينفصل عنه ويلاشيه إنه في هذه الحال يرتبط به ارتباطا قويا بحيث يفرض عليه واقعه ومعناه
الوحيد وهو الألم والوجع ويفرض عليه إحساس بعينه دونما انفكاك بحيث لا يسمح بأي مجال
أمام الوعي لأن يختيار إحساس أو معنى بديل كالإهمال أو اللامبالاة.
إن إندماج الإنسان في الحرب وفي المرض
وفي السجن وغيرها من الأمثلة والخضوع لمعاني المواضيع الخارجية أو الكثير من المواقف
التي تخضع لقانون الإنعكاس الشرطي كما تذكرها المدرسة السلوكية تدحض مقولة الإنفصال
والملاشاة التركيب الأنطولوجي للوعي التي فسر في ضوئها وبمقتضاها ساتر كل الوجود وجعل
منها مقدمة ضرورية للحرية الإنسانية المطلقة. فليس الإنسان اتصالا مستمرا أشبه ما يكون
بارتباط الظواهر الطبيعية كما تقول السلوكية ولا هو في انفصال مستمر كما تقول الوجودية..
فالإنسان من جهة متصل بالعالم خاضع لطبيعته ومن جهة ينفصل عنه في حدود إمكانياته.
هي جبرية من حيث أرادها حرية مطلقة.
الحرية عند سارتر سابقة على الإرادة..يختار
الحدس أولا ثم الإرادة الحرة هي مجرد تبرير عقلي يجيء لاحقا على الإختيار السابق الحر.
فالحرية والإختيار هنا ما هي إلا تبرير للتلقائية ولا شك أن الفهم العلمي للإختيار
الحر لا بد أن يتضمن طبيعة عقلية فالإختيار الحر دائما إختيار واعٍ لواقعة ممكنة من
جملة الوقائع. وما قرره سارتر هو نوعا من الحتمية والجبرية فسارتر قد عاد لمفهوم برجسون
عن للحرية والتي هي تلقائية تسقط من النفس سقوط الثمرة من الشجرة كقذيفة تدفعها إلى
الأمام طاقه انفجار البارود في الخلف دون أن تدرى أي هدف تصيب. فالحرية وكما قلنا ليست
صفة بالنسبة للإنسان في فلسفة سارتر ولا هي ملكة من ملكات الروح وإنما هي واقع عارض
une facticité مجبر عليها الإنسان وكما يقول سارتر: "إننا
مدانون بالحرية " أي مجبرون عليها وهنا نتسائل كيف يشعر الإنسان بالحرية المطلقة
ويشعر في ذات الوقت أنه مدان بها ومقسورا عليها؟ أليس هذا الشعور يحد من قيمة الشعور
الأول ويناقضه.. فهي إذن حرية اضطرارية يضطر فيها الوعي لأن يختار حتى رفض الإختيار
يعتبره سارتر نوعا من الإختيار. فالفرار من الحرية هو في نظر سارتر حرية ليسقط في تناقض
من نوع آخر وهو كيف يستطيع الإنسان أن يفر من الحرية وهو في ذات الوقت مدان بها ومقسورا
عليها!..إن قولنا أن الإنسان مقسور على الحرية ومجبر عليها يعني أنه لا يستطيع أن يفر
منها. والقول أن الفرار هو في ذاته حرية لا يحل الإشكال بل يزيدها تناقضا ووقوعا في
مغالطة الدور إذ كيف يمكننا الإعتماد على "شيء" في الفرار من "نفس هذا
الشيء" الذي اعتمدنا عليه!..إن مثل هذه التناقضات لا تلتئم في فلسفة واحدة ولكننا
نجدها جنب إلى جنب في الوجودية وفي فلسفة سارتر تحديدا.
إن سارتر مع تأكيده على الحرية الإنسانية
المطلقة إلا أنه ينتهي إلى نقيضها بوضعه الجبرية أساسا سابقا عليها. ثم على فرض أنها
حرية فما قيمة هذه الحرية إن كان كل دورها هو أن تخبرني بما أعرفه فعلا وهو أنني كائنا
حرا ؟
التاريخ : هل حقيقة ينفصل الإنسان عن ماضيه
وتاريخه؟
وفقا للتركيب الأنطولوجي للوعي نجد أن
الوجوديين يضعون فاصلا وجوديا بين الماضي والحاضر. فالأفعال الإنسانية هي في انفصال
مستمر عن الماضي وفي تجدد مستمر نحو المستقبل وأن أي فعل يسقط في الماضي بمجرد إنجازه
ليصبح شيئا في ذاته والشيء الــ"في ذاته" هو كائن جامد لا قيمة له خال من
الحرية. فماضي الإنسان غير موجود يقع الإنفصال عنه بمجرد تحققه في الواقع ليصير عبارة
عن عدم.
الإنسان حسب تصور سارتر للزمن ينفصل عن
الماضي والحاضر: بمجرد تكونه فيتجمد بدوره في الماضي. وبالتالي ينفصل الإنسان عن كل
جزء من أجزاء شخصيته بمجرد تكونه..إن الإنسان في فلسفة سارتر لا يتاح له إطلاقا أن
يصنع نفسه أو أن يصنع شخصيته فالشخصة عند سارتر تضيع وتتلاشى لحظة تكون أول جزء من
أجزائها ويصير من العبث الحديث عن المستقبل وبناء الشخصية دون تراكم بناء الأجزاء في
نسق واتصال زمني مستمر بعيدا عن مقولة الإنفصال.. وانفصال الإنسان عن الماضي لا يعني
فحسب تلاشي الشخصية الإنسانية من ناحية الماضي وإنما يعني أيضا استحالة الإتجاه نحو
المستقبل لانعدام نقطة الإرتكاز في الزمن الحاضر. يقول بول تيليتش: "إن الحاضر
يختفي في اللحظة عينها التي نحاول أن نستحوذ فيها عليه. إن الحاضر لا يمكن الإستحواذ
عليه فإنه يكون قد ولى دائما" وبالتالي لا وجود لنقطة ارتكاز للتوجه نحو المستقبل
ولا معنى بعد ذلك لقول سارتر أن الوجود هو العمل وبالعمل يصنع نفسه لأننا سنتساءل مباشرة
كيف يصنع الإنسان نفسه بمقتضى العمل بينما هو ينفصل عن كل عمل من أعماله في نفس اللحظة
ويتركه يتجمد في الماضي.
مقولة الإنفصال والملاشاة تتناقض مع الطابع
الأساسي للتاريخ الإنساني من حيث دينامكيته وحركيته المستمرة..فالتاريخ هو عبارة عن
إضافات مستمرة مع ضرورة بقائه لأن إلغائه لا يفسر لنا كل إضافة في الزمن الحاضر ولا
يبرر قيامها ولا يفسر إمكانية الإضافات المستمرة في المستقبل. وليس التاريخ كما في
الجدل الهيجلي حيث يأتي النقيض antithese ليرفع الأصل وحيث يأتي المركب
synthese ليرفع التناقض. فإن هذا التاريخ
كما في الوجودية يفقد أهم خصائصه ويتحول إلى سجل للموتى..فالتاريخ الإنساني هو كل ما
يحمله من حضارة ومن تراث ومثل هذا التاريخ لا يمكن أن يظل محتفظا بطابعه الديناميكي
المتطور إذا ما أخذنا بمقولة الإنفصال والملاشاة. بل على العكسِ تماما إذ أن اندماج
الإنسان في حركة التاريخ هو ما يضمن الإضافة المستمرة. يقول الدكتور محمد علي الكردي:
"إن هذه المسافة التي أثبتت شرعيتها في مجال المعرفة العلمية المرموزة رياضيا
والتي تفترض إقصاء العد التاريخي منه حتى نصل إلى مجموعة من الحقائق والقوانين العامة
تميل إلى التلاشي في مجال العلوم الإنسانية لارتباط المعرفة هنا بالتاريخ ارتباطا جذريا
ولاتصال الباحث بشكل من الأشكال بموضوع بحثه )).
من جهة أخرى يستحيل في ضوء مقولة الإنفصال
والملاشاة تفسير الكثير من العمليات السيكولوجية ويظهر جليا تعارضها مع أشهر دراسات
وكبريات مدارس علم النفس والإجتماع. فعمليات التذكر مثلا تعني رجوع الإنسان سواء لماضيه
القريب أو البعيد وكلما تعمق في هذا الماضي كلما اكتشف اتصاله بالحاضر وفهم أكثر شخصيته
الحاضرة وهو الأسلوب المعتمد في علم النفس الحديث حيث تقع معالجة اللحظة الحاضرة والتأسيس
للمستقبل بالبحث في أحداث ماضية وهذا ما نلمسه في الفرويدية باكتشافها اللاشعور الفردي
الذي يعتمد كليا على الماضي الشخصي للفرد وتجاربه السابقة أو في علم النفس التحليلي
لكارل يونع باكتشافه اللاشعور الجمعي وهي رؤية ترجع بالإنسان إلى النماذج الماضية المخزنة
بداخله لاإراديا ومن ثم يربطها بحياة الشخص الحاضرة ويتعرف فيها على حقيقته في ضوء
نماذج الماضي. وليس هو تذكرا انفعاليا كما عند فرويد وإنما هو توجيه يخلو من القلق
يعود بالمريض للماضي فيعيد للنفس هدوءها وصفاءها في الحاضر والمستقبل. أو الدراسة التي
قام بها عالم الإجتماع الفرنسي موريس هالفاكس عن الذاكرة الإجتماعية mémoire collective .وهي الذاكرة التي بدونها تسقط ديمومة الجماعة وهي
الذاكرة التي يجد فيها الشخص كل ما يلزم وتخبرنا أن التجارب والخبرات الماضية تظل مخزنة
في النفس دون ان يعيها الشخص ودون ان تتلاشى أو تنتهي مع الزمن الفائت ويبقى لها تأثير
واتصال مع التجربة الحاضرة فتضفي عليها بعض طابعها وتحدد فيها بعض سلوكها. إذن فالقول
بأن الإنسان ينفصل عن ماضيه بشكل تام أو له القدرة أو الحرية على ذلك ليس له علاقة
بالموضوعية العلمية ولا حتى بالواقع كما لمسنا ذلك في تحليلنا لشخصية سارتر وفق المنهج
الفينومينولوجي. ثم ما قيمة الإنسان إن فقد شخصيته وتاريخه سواء تاريخ فردي أو جمعي
من حيث هو تاريخ متصل.. وما قيمة أي عمل إذا انحصرت قيمته في لحظة إنجازه....إن لهذه
الأطروحة الوجودية المجمدة للتاريخ خطورة سواء على الكائن البشري أوعلى التاريخ الإنساني
ومستقبل المعرفة الإنسانية ككل.
خاتمة
لا يمكن التأسيس للحرية الإنسانية إلا
إن كان هذا الإنسان مخلوقا لله وقد رأينا سارتر بإلحاده كيف أفضى به الأمر للتأسيس
لجبرية مقيتة أشد من تلك التي يعيبها على الفلسفات الماهوية..والمشكل الذي نراه أن
سارتر يرى أن الإنسان حر ويرفض في الآن نفسه أن تكون هذه الحرية قادمة من خارج الإنسان..وهي
ذات الفكرة التي استندت إليها الفرق القدرية كالمعتزلة وغيرهم ممن قالوا بخلق الإنسان
لأفعاله حيث ظنوا أن هناك تعارضا بين قدرة العبد ومشيئته وبين كونها قدرة ومشيئة تحت
قدرة الله ومشيئته. ولو كانت المشيئة هي من تخلق الأفعال لما وجدنا فرقا بين المشلول
والمعافى فكلاهما يشاء تحريك يده فالسليم يشاء ويستطيع والمشلولٌ يشاء ولا يستطيع.
وهذا دليل على أن الأعمال إنما هي أحداث كونية أو ممكنات كونية مخلوقة أنت تختارها
ولا تخلقها. وعلى فرض أنك تخلقها من حيث تريد التأسيس للحرية فلا يعني بالضرورة أنك
حر فها قد رأينا مع سارتر كيف خلصنا إلى جبرية مقيتة من حيث أرادها حرية وحرية مطلقة
أيضا.
الوجودية عموما شقت طريقها على أساس نقد
حاد للعلم وعرفت عن نفسها في اتجاهات لا عقلية وصوفية ووقوفها ضد العلم وانعزالها عن
العالم والتاريخ لم يسمح للوجودية ببناء منظومة فلسفية إيجابية فالمجتمع في الوجودية
ليس إلا خليطا من أفراد منعزلين وهذا الخليط يقع في تناقض مع طبيعة الإنسان بكونه كائنا
أجتماعيا. يقول تيليتش وهو وجودي في جانب كبير من فكره :"قد لوحظ أن القلق إزاء
القلق يتزايد مع تزايد عملية التفرد وأن الناس في إطار الحضارات الجمعية أقل تعرضا
لهذا النمط من القلق..وهذه الملاحظة صحيحة إلا أن الإيضاح القائل بأن ليس هناك قلق
أساسي في الحضارات ذات الإتجاه الجمعي هو إيضاح خاطئ"..وقد ازدهرت الوجودية
في زمن كان فيه الإنسان في حاجة لتبرير شعوره باليأس والقلق وفي حاجة لإنقاذ ماء وجهه
وكرامته البشرية وهو في أدنى دركات الحضيض. تماما كالمشهد الذي صورته رواية الإخوة
كرمازوف لدستوفسكي: "إنني حينما أندفع إلى الهاوية أندفع مباشرة رأسي في المقدمة
ويعجبني أن أسقط على هذا النحو إذ أرى جمالا في هذا السقوط"
إن الوجودية ظهرت لتبرير المآسي ولرد الفوضى
إلى النظام غير أن السؤال الذي يجب أن يطرح اليوم هو: وماذا تحقق من هذا المشروع؟ إن
الإجابة على مثل هذا السؤال تقودنا مباشرة للنظر في الواقع الغربي الحالي إن المشروع
الوجودي بدأ يتلاشى مخلفا وراءه طريقا مسدودا وسؤالا بلا جواب: البشرية إلى أين ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق