يقود النظر في عبادة التفكير إلى تبين مكانتها من بين
أنواع العبادات الأخرى، حيث يختص بعدة مميزات تسمو به إلى أعلى الدرجات نتناولها
واحدة بعد أخرى:
أولا: العبادة تمتد في السلوك البشري كله، صنف منها يختص به
القلب دون البدن يوجد الفكر على رأس قائمته التي تشتمل على التفكر، التذكر،
الإخلاص، الرضى، التوكل، التوبة، المراقبة… وصنف يشترك فيه القلب مع البدن مثل
الإيمان، الصلاة، الصوم، تلاوة القرآن، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجهاد،
الصبر، العفة…
فشرف الفكر من شرف أداة ممارسته وهي القلب الروحي الذي
هو أشرف ما في الذات، وبه يكون صلاحها ورقيها أو فسادها وانحطاطها، والفكر من جهة
ثانية هو أشرف الأعمال القلبية بعد النية، فإذا صح واستقام صحت به جميع الأعمال
وتزكت واتجه بها نحو التمام والكمال، بحمل النفس على لزوم الإخلاص وموافقة الطريقة
الشرعية، ومحاسبة النفس في كل مراحل الفعل وعند نهايته.
وما من شك أن التفكير يؤثر في النية إنشاء وتوجيها كما
تؤثر هي فيه وفق ما بيناه في حلقات سابقة، فيكون التأثير بينهما متبادلا بحيث يكاد
الفكر يحضر في جميع الأفعال النفسية والجسمية. فلا صلاح لشيء منها دونه، فالإخلاص
مثلا يميل نحو الاختفاء والتلاشي إذا لم يتعهده الفكر بالنظر في العوائق والعواقب
وكان دائم اليقظة والفطنة، وحالة مراقبة الله في السر والعلن قد يعتريها ضعف أو
فتور، وقد تعصف بها أهواء النفس وشهواتها، إذا تراجع دعم الفكر لها، وقد تنقلب أية
طاعة إلى معصية وانحراف ناجم عن سوء تفكير وتقدير صحيح للأمور، ووزنها بميزان
الشرع، فيختل القياس وتزل الأفهام وترتبك أحكام العقل ممهدة الطريق نحو النكوص
والآثام. نعم قد يظل التفكير على سلامة أحكامه، ومع ذلك تمضي النفس في اندفاعها
الجارف مع الشهوات، غير عابئة بمقتضيات الفكر وتقريراته، لكنه بعد الوقوع في
الخطيئة، وحصول الزلل يستعيد قوته وترتفع قدرته على مخاطبة القلب، بما يجعله مذعنا
للرشد تائبا إلى الصواب، بعد إبصاره فداحة المخالفة وإحساسه بسوء العاقبة.
أما العبادات البدنية فإن حاجتها للفكر أجل وأعظم من
حاجتها إلى الجوارح، فالصلاة لا تكتمل بالقيام والركوع والسجود دون حضور القلب في
نيتها وذكرها ودعائها وكل مراحلها وشروطها وأحوالها وأوقاتها، “فَوَيْلٌ
لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ” [سورة
الماعون، الآيتان: 4 و5]، ويقول سفيان الثوري: “يكتب للرجل من صلاته ما عقل منها
“. ويقول ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من ليلة بلا قلب يعني خير من قيام
ليلة بلا قلب. وقال محمد ابن كعب القرضي رحمه الله: لئن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بإذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليها وأتردد فيها أتفكر، أحب إلي من أن أهذّ القرآن
ليلتي هذاً أو أنثره نثراً. ويقول الحسن البصري: تفكر ساعة خير من قيام ليلة.
وخير عبادة تتوقف على التفكير أكثر من غيرها قراءة
القرآن التي يلزم أن تكون بتدبر”وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ
فَهَلْ مِنْ مُذكِرٍ”، [سورة القمر، الآية: 16]. “كِتَابٌ اَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الاَلْبَابِ” [سورة ص،
الآية: 28]. قال الحسن البصري: “نزل القرآن ليتدبر ويعمل به فاتخَذوا تلاوته عملا” [1].
ونفس الشيء بالنسبة لكل العبادات البدنية، وقد قيل
لإبراهيم ابن أدهم إنك تطيل الفكرة، فقال الفكرة مخ العبادة. فهذه العبادات
البدنية إذا قلت مع التفكير صارت أعمق أثرا، وأوسع أجرا عند الله منها إذا كثرت
وخلت من التفكير؛ لأنها حينئذ تصبح فعل مادة الإنسان دون روحه المعنية بالطاعات
والمسؤولة عنها بين يدي الله بعد لحوق البلى بالجسد الطيني.
ثانيا: ارتباط التفكير بتصحيح العقيدة وتقويتها.
وتتميز عبادة التفكير أيضا من جهة كونه مرتبطا بالعقيدة
ارتباطا متينا، فبه تكون تقوية الإيمان وتسديد الرؤى والتصورات العقدية، والتي لا
تصح عبادة ولا يكتب لها القبول عند الله، إلا إذا انبنت على أساس العقيدة وانضبطت
بمقاصدها، وذلك كله لا يتأتى إلا ببذل المجهود الفكري. فالأفعال الاعتقادية تحوز
المرتبة الأسمى من بين الطاعات الشرعية، لكونها تربط القلب بالله، وتزيده إيمانا
بصفاته، وإدراكا لحكمته، واستحضارا لمراقبته، واستشعارا لخشيته، فيكون أثرها في
النفس أعمق وأرسخ من أي عمل تعبدي، لذا قال ابن قيم: “تفكر ساعة خير من عبادة سنة،
فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة، ومن المكاره إلى المحاب، ومن
الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة” [2].
إن تفكير ساعة قد ينتهي إلى قرارات وإدراكات واستنتاجات،
يحتاج تحققها سنة كاملة من العبادة البدنية أو أكثر، فالتفكير يكشف ما يعتري
ممارسة العبادة من الاختلال وضعف الإخلاص، وتراجع عطاءاتها في السلوك وما شابه ذلك.
فإذا كان مقصد العبادة إدامة مراقبة الله في القلب،
وخشيته في السر والعلن، وابتغاء مرضاته والحذر من سخطه؛ فإن التفكير الهادف يوصل
إلى ذلك في أقصر وقت وبأقل جهد انطلاقا من التأمل المركز في ظاهرة كونية أو
اجتماعية وإنسانية، قال وهب بن منبه: “ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، وما فهم إلا
علم، وما علم إلا عمل”[3] .
ولذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفكير في
آيات الله المنثورة في الكون(تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله- وفي رواية –
تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله) [4]؛ لأن التفكير في المخلوقات يوقف
النفس على عظمة الخالق وحكمته البالغة، مما لا يدع أمام الفكر مجالا للإنكار
والجحود أو الغفلة، ويرتقي بالإيمان إلى أعلى المستويات. ويجعل النفس مستشعرة لثقل
الأمانة التي تطوقها في هذه الحياة ويتزايد حرصها على حفظها ورعايتها.
ونستشف هذه المعاني من عدة نصوص نذكر منها: “الَذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار”،ِ [سورة ال عمران، الآية: 190]. وقال بشر الحافي:
“لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوه” [5].
كما أن
التفكير يقف بالنفس على جوانب وفائها وتقصيرها في حق الله والنفس والناس أجمعين،
قال الفضيل بن عياض: “الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك” [6].
وكما نعول على الفكر في النهوض بأمانة الاستخلاف في شقها
الأخروي، فإننا كذلك نعول عليه في الاضطلاع بالأعباء الاستخلافية في جانبها
العمراني الدنيوي، حيث يظل الفكر مرة أخرى أوسع نفعا، وأعمق أثرا في تحقيق السعادة
الإنسانية من خلال ما يؤسسه من معارف وعلوم، تشتغل بدراسة الكون وتدبير موارده
وطاقاته، وتسخيرها في مآرب الإنسان ومصالحه، وذلك ضرب آخر من العبادة التي لا حدود
لآثارها الإيجابية في حياة الناس، ولا يعلم مقدار أجرها عند الله إذا قصد بها
التقرب إليه إلا هو سبحانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق